وَالْقَوْل الآخر: أَن الصُّلْح لمْ يَقع على رد النِّساء، لِأَنَّهُ يُروى: على أنّهُ لَا يَأْتِيك منا رجُل وَإِن كَانَ على دينك إِلَّا رَددته، لِأَن الرجل لَا يُخشى عليْهِ من الْفِتْنة مَا يُخشى على الْمَرْأَة من إِصَابَة الْمُشرك إِيَّاهَا، وأنّهُ لَا يُؤمن عليْها الردّة إِذا خُوِّفت، وأكْرِهت عليْها لضعف قَلبهَا، وَقلة هدايتها إِلى الْمخْرج مِنْهُ بِإِظْهَار كلمة الْكفْر مَعَ التورية، وإضمار الْإِيمَان، وَلَا يُخشى على الرجل ذلِك، لقُوته وهدايته إِلى التقية، فَلم يكن فِي ردِّه إِلَيْهِم إسلامًا لهُ للهلاك، لتيسُّر سَبِيل الْخَلَاص عليْهِ.
وإِذا احْتَاجَ الإِمام إِلى مثل هَذَا الشَّرْط عِنْد ضعف أهل الإسْلام، فَلَا يجوز أَن يُصالحهم على ردِّ النِّساء، وإِذا صَالحهمْ على رد الرِّجَال، ثُمّ جَاءَ فِي طلبه غيرُ عشيرته لَا يجوز ردُّه، وَإِن جَاءَ فِي طلبه بعضُ عشيرته، ردّه، لِأَنَّهُ لَا يُخشى عليْهِ مِمَّن هُو من عشيرته أَن يقْتله، أوْ يَقْصِدهُ بِسوء، بل ينبُّ عَنهُ من يَقْصِدهُ لشفقته، وقرابته.
على هَذَا الْوَجْه كَانَ ردُّ أبِي جندلٍ، وَأبي بَصِير، فإِنّهُ ردّ أبِي جندل إِلى أبِيهِ، وَأَبا بَصِير إِلى عشيرته الّذِين يقومُونَ بالذبِّ عَنهُ، ورعاية جَانِبه.
ورُوِي عنْ أبِي رَافع، قَالَ: بعثتني قُرَيْش إِلى رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمّا رأيتهُ، ألْقى فِي قلبِي الإسْلام، فقُلْتُ: وَالله لَا أرجعُ إِلَيْهِم، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أخِيسُ بالعهْدِ، وَلَا أحْبِسُ البُرُد، ولكِنِ ارْجعْ فِإِنْ كَانَ فِي نفْسِك الّذِي فِي نفْسِك الْآن، فارْجِعْ».