ولكنه لقوة فنائه في الله تعالى، وشدة عقيدته في ربوبية الله تعالى، وعدم التفاته إلى غير الله تعالى؛ لا يشاهد إلا الله تعالى مع اعتقاده أنه توجد أشياء غير الله تعالى ولكنه لشدة تعلقه بالله لا يشاهد إلا الله تعالى، وذلك كقوة شعاع الشمس فإن النجوم لا تشاهد عند شعاع الشمس بالنهار مع أنها موجود.
فلقوة شعاع وجود الرب تعالى لا يرى هذا الرجل، ولا يشاهد إلا الله تعالى، مع اعتقاده أن هناك أشياء موجودة غير الله تعالى، فلقوة تعلقه بالله في زعمه لا يلتفت ولا يرى لا زوجاً ولا أكلاً ولا شرباً ولا مالاص، فالعارف ـ يعني الصوفي العارف بالله (في زعمهم) ـ إذا غاب بموجوده أي بجسمه هو عن وجوده هو؛ فهو لا يشاهد إلا الله تعالى ولا يرى جسمه، وإذا غاب بمشهوده أي ربه [لأنه بشهود له فقط] غاب عن شهوده لغيره.
فهو لا يشاهد غير مشهوده وهو اللهو وإذا غاب بمعروفه [أي ربه الذي هو معروف لديه] عن معرفته لأشياء أخرى غير الله، فهو لا يعرف شيئاً غير الله تعالى، فإنه حينئذٍ يدخل في فناء التوحيد الكامل، وهو توحيد الربوبية عندهم، وهو توحيد كوني.
بحيث يعتقد أن من لم يكن في الأزل فهو فانٍ غير موجود، ونحو الأكل والشرب والزوجة والكون لم يكن موجوداً فهو الآن كأنه غير موجود، وأن من كان في الأزل وهو الله فهو باق، لم يزل ولا يزال، أما الأشياء الأخرى والموجودات الأخرى كأنها لا وجود لها أصلاً.
أقول: هذه الفلسفة الصوفية متضمنة للحق والباطل، فأما الحق فهو أن الكون لم يكن موجوداً وسيفنى أيضاً، والله كان وسيكون لم يزل ولا يزال موجوداً، وأما الباطل فهو اعتقاد أن هذا الكون غير موجود، وأنه غير مشهود، وأنه غير معروف، وأنه لا تعلق لنا بالدنيا والأكل والشرب والزوج والزوجة أصلاً.