سلكوا فيما هذه سبيله طرقًا فمنها: كثرة عدد رواة الخبر، ومنها كون رواته أبصر بالحكم وأعرف وأخبر بالقصة التي ينقلها؛ كنقل أبي رافع تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة حال إحلاله، ونقل ابن عباس لذلك أنه كان حال إحرامه، وإن أبا رافع كان السفير بينهما؛ فالظاهر أن السفير يخبر عن أمر القصة ما لا يخبره غيره. ومثل كون الراوي أقدم صحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر اجتماعًا به منه؛ كما قال الشافعي في رواية أسامة: "إنما الربا في النسيئة": إن عمر وعبادة والمشيخة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من أسامة.
وكذلك في تفسير الراوي لأحد محتملي الخبر أو عمله به أو تعليله قولاً لصحابي، والآخر عريًا من ذلك، وأن أحد المذهبين يعضده قول صحابي والآخر قول تابعي، وما جرى مجرى ذلك.
وإذا ثبت هذه الجملة وجدنا الترجيح لاجتهاد أهل المدينة ثابتًا من عدة وجوه: منها ما ذكره أصحابنا في الفصل الذي قبل هذا؛ وهو أن لهم من حرمة القرب والمشاهدة والمعرفة بمخارج الكلام وأسباب الأحكام ما ليس لغيرهم ممن يرجع إلى أمر ينقل له وخبر يروى له؛ فكان اجتهادهم أولى؛ لأن سببه الذي بني عليه أقوى كما حكينا في وجوه ترجيحات الأخبار؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز [ق/ 122] الحية إلى جحرها"؛ وهذا يدلك على أن ما يصيرون إليه أقرب إلى الحق والصواب من قول غيرهم كما رجح بعض من يخالفنا اجتهاد عمر - رضي الله عنه - على اجتهاد غيره بقوله صلى الله عليه وسلم: "الحق ينطق