النوع الأخير من التمائم وهي: التعاليق من كلام الله جل في علاه، من القرآن أو من الأحاديث النبوية أو من الأذكار التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام.
اختلف العلماء في هذا النوع من التعاليق على قولين: قال بعضهم: يجوز للإنسان أن يعلق المصحف حفظاً للسيارة، أو يأتي بتعليقة لأولاده فيها الأذكار، فيجعلها في الرقبة، أو يأتي للمرأة أو للطفلة الصغيرة فتعلق أوراق مكتوب فيها آيات قرآنية مثل آية الكرسي، أو تُعلق التعاليق في البيت، فتدخل البيت وتجد آية الكرسي معلقة على الحائط.
وهذه التعاليق قال بجوازها بعض العلماء، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، والذي يستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر عباده وغضبه وعقابه)، فكان يتعلم هذه الكلمات ويقولها صباحاً ومساءً.
ويعلم أطفاله الصغار أن يذكروها، فإن كانوا من الصغر بمكان، ولم يستطيعوا أن يذكروها كتبها لهم في ورقة وعلقها على صدورهم حفظاً لهم.
قالوا: وهذا فعل لـ عبد الله بن عمرو بن العاص ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فأصبح إجماعاً سكوتياً.
أيضاً قالوا: إن عائشة الصديقة بنت الصديق فقيهة النساء، هذه المرأة التي عندها ثلث العلم قالت: يجوز للمرء أن يعلق ذلك ما دام البلاء قد نزل؛ لأن التعليق فيمن لم ينزل.
أيضاً ممن قال بالجواز أحمد بن حنبل، وقوله هذا ينفع كثيراً أصحاب المحلات الذين يعلقون التعاليق التي فيها آيات القرآن.
ودليل أحمد: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في المسند: (من تعلق شيئاً وكل إليه) أي: تركه الله جل وعلا له، فيقول: أنا وكلت لكلام الله فقد وكلت إلى ذات الله جل في علاه، والحافظ هو الله جل في علاه، والنافع الضار هو الله جل في علاه.
ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهما من فحول أهل العلم.
القول الثاني: قول جماهير الصحابة وجماهير أهل السنة والجماعة، وهي رواية أيضاً عن أحمد قالوا: لا يجوز تعليق آيات القرآن، لا على الحائط، ولا على الصدور، ولا لدفع الحسد.
ودليلهم على ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، فجعل التمائم كلها شرك، وذلك بوجه العموم في الحديث، وهو دلالة على تحريم عموم التمائم، سواء من القرآن، أو من غير القرآن، فقد وصفها ووسمها الله بأنها من الشرك بمكان.
واستدلوا أيضاً بالنظر فقالوا: إباحة تعليق الآيات القرآنية من باب الوسائل التي تؤدي إلى الاعتقاد في القرآن أنه ينفع ويضر، وهو سبب شرعي.
والقرآن صفة من صفات الله، ولا يصح أن يقول الإنسان: أنها تنفع وتضر، ولا يصح للمرء أن يقول: يا رحمة الله! ارحميني، ولا أن يقول: يا كرم الله! أكرمني، يا رزق الله! ارزقني؛ لأن الرحمة والكرم والقدرة والعزة كل هذه صفات من صفات الله، وصفات الله لا تنفع ولا تضر، والذي ينفع ويضر هي ذات الله جل في علاه، الذات المقدسة، فمن اعتقد في القرآن أنه ينفع ويضر فقد اعتقد اعتقاداً شركياً.
والقاعدة تنص على أنه لا يصح أن يعتقد في صفة من الصفات ما لا يعتقد إلا في ذات الله جل في علاه.
فإذاً: نقول: تعليق القرآن مع اختبار الله في وجود الشفاء هذه وسيلة إلى أن يعتقد في القرآن أنه ينفع ويضر بذاته، وهذا اعتقاد شركي، وهو وسيلة للشرك الأكبر.
والراجح من القولين هو قول الجمهور، ولا يصح البتة ما رجحه شيخ الإسلام، وابن القيم، ولا يصح تعليق الآيات القرآنية، لا على الحائط، ولا على السيارة، ولا على رقبة الطفل، ولا على رقبة المرأة، ولا على باب البيت.
ولذا فلا يجوز بحال من الأحوال تعليق آيات القرآن، والأدلة على ذلك كثيرة منها -كما قلت سابقاً- عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن التمائم شرك)، أي: كل التمائم شرك.
أيضاً: أن تعليق القرآن تؤدي إلى مفاسد تأباها الشريعة، منها: أنك لو علقت آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية على رقبة الطفل، ثم دخل الخلاء أو دخل الحمام، فإنه سيمتهن كلام الله جل في علاه، ويدخل تحت ذلك الخاتم أو السلسلة المكتوب عليها آيات الله، وهذا بالإجماع ممنوع شرعاً.
ومن المفاسد أيضاً: أنك لو علقت هذه التمائم، أو علقت المصحف على السيارة كما يفعل كثير من الإخوة، فيأخذ المصحف الصغير ويعلقه ويقول: أنا أتبرك بكلام الله، والتبرك بكلام الله صحيح، فيصبح المصحف بعد ذلك لا للتلاوة، ولكن لدفع العين وللزينة، ودور القرآن في الحياة الذي هو التلاوة والتدبر قد مُنع بسبب هذه التعاليق، فهذه مفاسد ترجح القول الثاني.
ونرد على المخالف وهم أصحاب القول الأول، فنقول: بالنسبة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص فإن سنده مختلف فيه، وعلى هذا فلا حجة لـ شيخ الإسلام بهذا الحديث.
وأما قول عائشة فهو اجتهاد منها، وهو اجتهاد مصادم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن التمائم شرك).
ونقول لـ عائشة: ما قلنا للشافعي وما قلنا لـ أبى حنيفة، وما قلنا لـ مالك، وما قال بعضهم لبعض، من أنه لا اجتهاد مع النص.
فالاجتهاد هذا اجتهاد فاسد لا يصح العمل به؛ لورود النص بالمنع، قال ابن عبد البر: لا حجة لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك: تعارض حظر مع المبيح، والقاعدة عند المحدثين أن يقدم الحظر على المبيح للاحتياط في العبادات؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف.
ونخلص من ذلك: أن التمائم كلها حرام وكلها شرك، منها ما هو من الشرك الأكبر، ومنها ما هو من الشرك الأصغر.
لكن لزم علينا كطلبة علم إذا أغلقنا على الناس باباً أن نفتح لهم باباً آخر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو عندما أغلق الباب على بلال لما جاءه بالتمر الجنيب قال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، فقال: أوه عين الربا، لا تفعل، فأغلق عليه الباب، ثم بعد أن أغلق عليه الباب أسقط في يد بلال.
ثم قال له: (بع الجمع الرديء بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً) فنقول: أغلقنا هذا الباب من دفع الضر والعين والحسد، إذاً: فما الباب الذي سنفتحه لهؤلاء؟ نقول: هذه الأبواب هي الأسباب الشرعية التي شرعها الله، فلك أن تدفع العين بأسباب شرعية، وللإجمال دون التفصيل أقول: الأسباب للاستشفاء ودفع العين، وطلب النفع، ودفع الضر سببان: سبب شرعي، وسبب قدري، إذ أننا دائماً ندور مع شرعنا حول القدر وحول الشرع.
فأما السبب القدري: فهو السبب المجرب، وذلك كالعملية الجراحية، وهو الذي خلقه الله فجربته أنت فعلمت أنه دواء ناجعاً لهذا المرض، فلك أن تقول: استشف لهذا المرض، أي: خذ سبباً للشفاء.
وأما السبب الشرعي في الاستشفاء، كدفع الضر وجلب النفع فهو نوعان: سبب شرعي حسي، وسبب شرعي معنوي.
فأما المعنوي: فهو طلب الرقية بالاستشفاء بالقرآن، كأن يقرأ عليك، أو تقول الأذكار التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: (ضع يدك على الذي تتألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثاً، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) سبع مرات.
أيضاً: أن تأخذ بريقك وتضرب على الأرض وتقول: (باسم الله تربة أرضنا وبريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا).
وأيضاً: تضع يدك على فمك وتقرأ المعوذات وتنفث ثم تمسح على كل جسدك، فهذا هو السبب الشرعي المعنوي.
وأما السبب الشرعي الحسي فهو: ما أنزله الله جل في علاه، وبين شرعاً أنه من الشفاء بمكان، كحبة البركة.
ومن الأسباب الشرعية كذلك: العسل، فقد جاء في الصحيح أو صح عن نبينا أن رجلاً جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخاه يشتكي بطنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اسقه عسلاً) فجاء في المرة الثانية فقال: ازداد الوجع عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اسقه عسلاً) فازداد الوجع مضاعفاً على الرجل، فقال: يا رسول الله! قلت: اسقيه عسلاً واشتد الوجع بأخي، قال: (اسقه عسلاً) انظروا إلى اليقين بالله، اللهم ارزقنا هذا اليقين فيك يا رب العالمين! وكذلك من الأسباب الشرعية الحسية: الحجامة.
أيضاً: ماء زمزم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له).
فهذا على العموم، وعندنا دليل خاص بالاستشفاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم).
فإذا أغلقنا هذه الأبواب فلا بد أن نفتح لهم أبواباً أخرى، فإذا أراد أن يستشفي بالذات من العين فلا يعلق الآيات القرآنية، ولكن يقرأ القرآن، فيقرأ المعوذتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أنزل الله عليه: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]-أي: يقتلونك حسداً- حرسه الله وحفظه بالمعوذبتين، وكان دائماً ما يتعوذ بهما.
وقد ذكر ابن القيم أن رجلاً كان مشهوراً بالعين، وكان إذا نظر إلى الجمل أنزله القدر، وإذا نظر إلى الرجل أنزله القبر، واشتهرت عينه بذلك، فكان يستأجر، فجاء رجل حاسد لرجل آخر غنياً فقال له: لك أجرة كذا على أن تفعل، قال: ما أفعل؟ قال: أن تحسد أبقار هذا الرجل، قال: ائتني بهذه الأبقار، قال: ستمر الآن، فأخذه على مشرفة عالية، فقال: اجلس حتى تمر، فمروا بأبقارهم، فقال له: الآن، قال: وما ذاك؟ قال: الآن تنظر تعين البقر، فالبقر يمر، قال: لا أرى بقراً، قال: هناك، قال: أين؟ فالرجل اجتهد حتى بين له المكان