والاستغاثة تنقسم إلى أقسام ثلاثة: استغاثة توحيد أو محض توحيد، واستغاثة محض شرك، واستغاثة وسط، وهي استغاثة مباحة حتى تميز بين ما يكون توحيداً وبين ما يكون شركاً، وبين ما يكون فيه الإباحة.
فالقسم الأول: استغاثة توحيدية، وهي أن تستغيث بالله جل في علاه إذا نزل بك الكرب، ونزلت بك الملمات، وتتذلل لربك جل في علاه، فهذه استغاثة توحيدية تصرفها لله جل في علاه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل إبراهيم وفعل داود وفعل أيوب وفعل أنبياء الله جل في علاه، فقد صرفوا الاستغاثة هذه لله وحده لا شريك له.
إذاً: فالاستغاثة الأولى هي: استغاثة توحيدية، وهي التي يصرفها العبد لله جل في علاه، فيتذلل لربه، ويطلب الحاجات من ربه جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا قيد مهم.
القسم الثاني: استغاثة شركية، وهي أن يطلب العبد من غير الله رفع الحرج، وإزالة الضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذه استغاثة شركية، وهذه تنبثق من قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي: كل من أنزل مخلوقاً منزلة الله جل في علاه فقد كفر، أو من أنزل الخالق منزلة المخلوق فقد كفر.
وعندما ننظر في هذه القاعدة وننظر في القسم الثاني من الاستغاثة الشركية نرى أنها طلب الغوث وطلب النصر وطلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه، فإذا قام عبد وقال: الغوث يا بدوي! أو قال: الغوث يا عبد القادر الجيلاني! أو أنقذني أو أغثنا أو أنزل المطر يا بدوي فهذا قد استغاث استغاثة شركية؛ لأن إنزال المطر لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك؛ لأنه صرف عبادة لا تكون إلا لله جل وعلا، فهذا نوع من أنواع الشرك، وهو شرك محض وحده، فإذا صرف الاستغاثة لغير الله بأن طلب من الميت أو طلب من الحي ما لا يقدر عليه إلا الله فقد صرف العبادة إلى غير الله، فوقع في الشرك.
وينضم إلى ذلك أنه إذا طلب الاستغاثة من غير الله جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله، فإذا قال للبدوي: اشف مريضي! فقد صرف العبادة لغير الله، وأيضاً لا يمكن أن يذهب إلى القبر ويقول للبدوي: اشف مريضي! إلا وهو يعتقد أن البدوي له القدرة على شفاء هذا المريض، وهذا شرك أيضاً في الربوبية، فيصير هذا الذي طلب أو صرف الاستغاثة لغير الله واقع في الشرك من وجهين: الوجه الأول: الشرك في الإلهية؛ لأنه صرف العبادة التي ثبتت بالشرع أنها عبادة لغير الله؛ فاستغاث بغير الله أو طلب أو دعا غير الله.
الوجه الثاني: الشرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله.
القسم الثالث: الاستغاثة المباحة، وقد جاء الشرع ليبين إباحتها، وهي الاستغاثة من البشر أو من الحي القادر الحاضر فيما يقدر عليه، فنجمعها في القاعدة الوجيزة (حي حاضر قادر)، فهذه جاءت جوازها من الكتاب ومن السنة: أما من الكتاب: فقد قص الله علينا قصة موسى عليه السلام عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، فهذا دليل على الاستغاثة المباحة، فقد استغاث الرجل الذي من شيعة موسى بموسى، وأغاثه موسى، وهذا دليل يستدل به العلماء على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، ووجه ذلك من قوله: (فوكزه).
وعلى هذا فيباح للعبد أن يستغيث بغيره لينفعه، وهناك أدلة عامة وأدلة خاصة، فالأدلة العامة كقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه).
فإذا استغاث أحد بأخيه فأغاثه فله ذلك، وليس من الشرك بحال من الأحوال، بل يمكن أن يكون من التوحيد.
والاستدلال الخاص هو بقول الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} [القصص:15]، فكيف استقى العلماء من هذا الدليل إباحة الاستغاثة بالحي الحاضر القادر؟
صلى الله عليه وسلم وجه الدلالة من هذه الآية قوله: ((فَقَضَى عَلَيْهِ)) فقد استجاب موسى عليه السلام له، ولأن موسى عليه السلام أبو الموحدين، وهو الموحد الأكبر في عصره، ويدل على ذلك أن قومه قالوا له: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] فأنكر عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك قال: (الله أكبر قلتم مثلما قال قوم موسى).
فكل نبي هو أبو الموحدين في عصره، فلو كانت الاستغاثة هذه من الشرك لأنكرها موسى، لكن موسى أقرها، بل من دواعي الإقرار أنه قضى على الآخر فأغاث المستغيث.
والله جل وعلا لا يقص قصة فيها إنكار إلا وينكرها، ولا يقص قصة وفيها إقرار إلا ويقر ذلك.
مثال ذلك: الإقرار بملكة سبأ، كما قال تعالى حاكياً عنها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34] فمن الذي قال: ((وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ))؟ قاله الله، فأقرها على ذلك.
وكقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فهذا إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم، وكقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] والإنكار على نوح واضح جداً في قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46].
إذاً: فالله جل وعلا لا يقر على باطل بحال من الأحوال، بل لابد أن ينكر، وإذا كان حقاً أقره الله، وهنا قص الله علينا قصة موسى وقصة المستغيث بموسى وأقره، فهذه الآية دلالة واضحة جداً على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه مباحة، والله جل وعلا أقرها.
أما من السنة: ففي السنن: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان قد تعب كثيراً من منافق فقال للناس: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا الحديث فيه ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث، فالسند فيه ضعف لكنه مما يستأنس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه).
وهذا الحديث عجيب! لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أبي بكر فقال: (إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه).
ومع ذلك يحتج المصنف بهذا الحديث على أنه يجوز أن يستغيث المرء بالحي الحاضر القادر، فما وجه ذلك؟ وجه ذلك: أنه علم أولاً من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستغاثة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه أنها مباحة، لكن توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يستغاث بي)، أن هذا فيه سد الذريعة، فهو يعلم الناس ألا يقولوا ذلك، كما أنكر على من قال: ما شاء الله وشئت، نعم فالمرء له مشيئة، والله جل وعلا جعل له مشيئة، لكن سداً للذريعة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك، أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله ثم شئت).
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الأصل في الاستغاثة أن تكون بالله جل في علاه.
أما بالنسبة للتي يقدر عليها الإنسان الحي الحاضر فله أن يستغيث به، فمثلاً: رجل كاد أن يغرق في وسط البحر فوجد سفينة وعليها الركبان، فقال لأحدهم: أغثني أغثني أغثني، فقوله جائز ولا شيء عليه.
كذلك رجل كان من القراء يعالج بالقرآن، ويأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أدراك أن الفاتحة رقية؟ اضربوا لي معكم بسهم).
فكان ينفع الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل).
فيقرأ على المصروع، وعنده جيوش جرارة من الجن المسلمين الفقهاء والمحدثين والمجاهدين، وفي ذات مرة وقع في ضائقة فنادى على جني منهم يعرفه باسمه، وكان يستعين به؛ استدلالاً بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، فنادى عليه فقال: أنقذني مما أنا فيه، فما هو حكمه مع قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]؟ وكيف ترد عليه وهو يستغيث بغير الحي الحاضر.
فالجواب: أنه استغاث بغائب، فلا يمكن أن نقول: إن هذه استغاثة مباحة، بل هي استغاثة شركية، وهذا هو الراجح والصحيح.
أما كلام شيخ الإسلام بجواز الاستعانة بالجن بدليل قصة عمر بن الخطاب فنقول: أولاً: القصة ليست صحيحة.
ثانياً: نقول: هذا غائب، فكيف يستعين بالغائب؟ فلا يجوز بحال من الأحوال، فهذه استغاثة لا تصح.
كذلك رجل كان في بلد وأخوه في بلد آخر فاتصل به بالهاتف، وقال: إني في ضائقة فأغثني، فهذه استغاثة مباحة جائزة؛ لأنه في أمر قادر عليه، وهو حي قادر حاضر، ولو كان غائباً، لكنه في حكم الحاضر.
كذلك رجل قام في السحر فصلى، فتذكر أن الله جل في علاه يبعث ملائكة سياحين في الأرض ينظرون لمن يقومون الليل، وهم يستغفرون للمؤمنين، فبعدما قام في السحر وبكى في الدعاء، نظر يمينه ويساره وقال: تحوطني الآن الملائكة، فتكلم مع الملائكة فقال: إني في ضر فأغيثوني، يعني بذلك الملائكة فما حكمه؟ فالجواب: أن هذه استغاثة شركية؛ لأن الملائكة غائبون عن الرؤية كالجن تماماً.
ولذلك قال العلماء: من طلب من ملك مقرب أو نبي مرسل أو من مقبور أو ولي صالح شيئاً مما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه فقد وقع في الشرك، ولو طلب ما يقدرون عليه فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب من غائب ولي