[وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجودية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم].
أي: أنه يمتنع أن يكون الحق في الأسماء والصفات لم يعرف تقريره إلا من واقع كلام المتكلمين، سواء قصد بالمتكلمين هنا القدماء منهم كالجهمية والمعتزلة المتقدمة، وهذا يكاد يكون يعلم تأخره وتعذره، لكن بالمقابل فإن كثيراً من الفقهاء يرون أن تقرير مسألة الصفات والأفعال المتعلقة بذات الباري سبحانه وتعالى وتحقيقها وقع في كلام المتأخرين من المتكلمين، ولهذا قال من قال بأن الأشعرية هم أنصار أصول الدين، وهم الذين قرروا المعرفة في مسألة أصول الديانة.
وهذا لا شك أنه غلط محض، وإن كان يقع في مذهب الأشعرية ما هو من الصواب إلا أنه ليس لهم اختصاص فيه، بمعنى أن الصواب الذي قالوه موجود في كلام السلف وليس لطائفة متأخرة لا الأشعرية ولا الحنبلية ولا الشافعية ولا المالكية ولا الحنفية ولا غير هذه الطوائف اختصاص بشيء من الحق، فإن الحق في هذا الباب محصور فيما قرره أئمة السلف رحمهم الله وأجمعوا عليه.
ولشيوع مثل هذه التوهمات صار بعض الفضلاء من أهل العلم الكبار يضطرب قولهم في هذا، فتجد أن النووي رحمه الله قد يقع له بعض هذا الوهم في مثل هذه المسائل، فتجده يقول: وللعلماء مسلكان في هذه النصوص -يعني نصوص الصفات-: التفويض -أو تارة يقول: التوقف- وهو مسلك السلف، والتأويل وهو مسلك أصحابنا المتكلمين.
ولا شك أن هذا التقرير غلط، فإن السلف ليسوا مفوضة، والحق ليس في هذا المسلك ولا هذا المسلك، بل في مسلك السلف الذي هو: إثبات المعنى وتفويض الكيفية، فالكيف مجهول والمعنى معلوم كما قرره مالك وغيره.
[ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه].
أي: هو مبسوط في كتب السنة المسندة، وهي التي نقلت ألفاظ السلف بأعيانهم وتصريحهم في مسائل الأسماء والصفات كالسنة للخلال وعبد الله بن أحمد، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والشريعة للآجري، وكتاب التوحيد لـ ابن خزيمة.