أهل التأويل

[وأما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته.

وهذا قول المتكلمة الجهمية والمعتزلة، ومن دخل معهم في شيء من ذلك].

هذا الصنف الثاني من المنحرفين عن طريق السلف في هذا الباب وما دخل فيه، والفرق بين قول أهل التخييل وأهل التأويل، أن أهل التخييل يقولون: إن هذه النصوص القرآنية والنبوية لم تتضمن الحقيقة في نفس الأمر لا من جهة ظاهرها ولا من جهة تأويلها، ولهذا لا يرون تأويل القرآن؛ لأن القرآن عندهم إنما هو خطاب للجمهور كما يذكر ذلك المتفلسفة ومن سار على طريقتهم ممن انتسبوا للتصوف أو التشيع من الباطنية.

أما الصنف الثاني -وهم الذين عني المصنف بذكرهم والرد عليهم-: وهم أهل التأويل الذين قالوا: إن هذه النصوص القرآنية والنبوية تضمنت الحقيقة في نفس الأمر، لكن الحقيقة في نفس الأمر ليست هي الظاهر من هذه النصوص، وإنما هي المعاني التي يصل إليها الناظر من أهل التأويل، وهذا التأويل يتحصل عندهم بدلائل عقلية هي الدلائل الكلامية، وهذه هي التسمية الصحيحة لها: أنها دلائل كلامية وليست دلائل عقلية يشترك في صحتها أو في قبولها سائر الأقوام.

وهذا قول المتكلمة والجهمية.

لأنهم الأصل في هذه الطريقة.

ومن دخل معهم في شيء من ذلك إشارة إلى متأخري المتكلمين الذين يضافون إلى متكلمة الصفاتية، فإن الأصل في هذه الطريقة -أعني: طريقة التأويل- هم الجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك من متكلمة الصفاتية، كالكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكالأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري، وكالماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي الحنفي وأمثالهم، فهذا الصنف يختلفون عن المتفلسفة؛ ولهذا صار جنس أهل التأويل أقرب إلى الشريعة والحق من أهل التخييل؛ وإن كان يقع في هذا الصنف -أعني: صنف المتكلمين- من الغلاة فيه ما يكون قول بعض المنتسبين إلى الفلسفة في بعض الموارد أقرب إلى الشريعة من قولهم.

حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر أبا الوليد بن رشد -وهو من المتفلسفة، ومن أهل الطريقة الأولى في الجملة- قال: ومع ذلك فإن ابن رشد وأمثاله من مقتصدة المتفلسفة خير من الجهم بن صفوان وأمثاله من غلاة المتكلمة في باب الأسماء والصفات.

إذاً: قد يقرب بعض أعيان المتفلسفة في بعض الموارد إلى درجة يكون فيها خيراً من بعض غلاة المتكلمين، لكن من حيث الجملة أهل التخييل أبعد عن مقاصد الإسلام ومراداته من أهل التأويل.

هذا هو الصنف الثاني، وهو الذي شاع الإشكال فيه، ولا سيما عند المتأخرين.

[والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء، إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً، بخلاف هؤلاء؛ فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، وهم - في الحقيقة- لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا].

ذكر المصنف قبل هذا أن أخص هذا الصنف هم الجهمية والمعتزلة، والجهمية والمعتزلة ليس لهم انتصار لطريقة السنة، وإنما مقصوده: أن اغلاة هذا الصنف انتصاراً معروفاً لبعض مسائل أصول الإسلام التي خالفوا فيها المتفلسفة، كالقول بحدوث العالم، والرد على المتفلسفة الذين قالوا بقدم العالم، وكقولهم بإثبات النبوة على التحقيق رداً على المتفلسفة الذين جعلوا النبوة مكتسبة، وجعلوها ثلاث قوى -على ما يذكره ابن سينا وأمثاله-: قوة التخييل، وقوة التعبير، وقوة التصوير.

فالمعتزلة لهم ردود في هذا الباب في مثل هذا النوع من المسائل، وهي: مسائل أصول النبوات، وأصول الشرائع، وتحقيق الأمر والنهي أنه حقاً على حقيقته، وتحقيق مسألة المعاد وأنها حقاً على حقيقتها.

ويستدل المعتزلة فيها على هذا الصنف من المتفلسفة بدلائل الشريعة أو الدلائل العقلية، فهم لهم نصر للإسلام أو للسنة من هذا الوجه.

وإذا وقع المقصود في الصنف الثاني من هذا النوع -وهم المتأخرون من المتكلمين كالأشعرية وأمثالهم- فإن لهم بعض العناية بنصر السنة -أي: ما ظنوه قول أهل السنة والجماعة- وهذا تارةً يقعون فيه على شيء من التحقيق، وتارةً يقعون فيه على شيء من الوهم والغلط، فيكون غلطهم من جهة ما ظنوه قولاً لأهل السنة وليس قولاً لهم.

أما ما وقعوا فيه من التحقيق فمن أخص مثالاته: استدلال الأشاعرة على ثبوت الصفات من حيث الأصل -أي: معارضة طريقة المعتزلة التي تقول بأن الرب لا يقوم بذاته شيء من الصفات- فصار الأصل عند الأشعرية أن الرب متصف بالصفات ..

فهذا أصل كلي، وأما عند التفصيل فإنهم ينازعون في كثير من تفاصيل الصفات -أعني الأشعرية-

فهذا من الحق الذي وصلوا إليه، وإن كانت طرقهم في إثبات الصفات ليست هي الطرق الفاضلة في الجملة، بمعنى: أن في طرق إثبات الصفات في كلام أئمة السلف من الطرق الشرعية والعقلية ما هو خير من الطرق التي يذكرها أئمة المتكلمين من متكلمة الصفاتية في مقابلة قول المعتزلة والجهمية.

وربما قرروا -في مقابلة قول الجهمية والمعتزلة- من المقالات التي هي وهم على السلف.

إذاً: ما ترد به طائفة على طائفة وقعت فيما هو من الضلال تارة يكون محققاً، وتارةً يكون قاصراً، وتارةً يكون غلطاً؛ أي: أنهم يردون البدعة ببدعة أخرى، ولكنها في الجملة تكون أخف منها.

فالمعتزلة لم يتحصل لهم القول بحدوث العالم إلا بنفي الصفات، فهم يرون أن ثمة تلازماً بين إثبات قبول الرب للصفات وبين القول بقدم العالم، وهذا التلازم وهم عند المعتزلة، وهذا الذي جعل شيخ الإسلام رحمه الله يقول كثيراً عن هؤلاء المتكلمين من المعتزلة وغيرهم: وهم لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا.

لأنهم بنوا القول بحدوث العالم على القول بنفي الصفات، فجعلوه لا يتحصل في العقل إثبات حدوث العالم إلا بإثبات أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات ..

ولا شك أن هذا الامتناع غلط؛ لأن العلم باتصاف الرب بالصفات أمر مستقر في العقل والشرع والفطرة، فلو فرض جدلاً أن هذا -الذي هو ثابت بالعقل والشرع والفطرة- يدل على القول بقدم العالم لكان هذا من التناقض الذي جاءت به الرسل أو فطرت عليه العقول والنفوس.

المقصود: أن هؤلاء المتكلمين -في الغالب- لا يحققون بعض الحق إلا بالتزام شيء من الباطل، بل ربما صار الباطل الذي التزموه وأقروا به شراً من الخطأ في الحق الذي قصدوا تحقيقه، وهذا لا يطرد، لكنه يقع في بعض المسائل، وليس المقصود هنا القول في تفصيله.

وربما صارت أدلتهم في ردهم على المتفلسفة أدلةً قاصرة يستطيع المحقق من المتفلسفة أو الحاذق منهم أن يجيب عن هذه الأسئلة، كاستدلال كثير من أئمة الكلام على القول بإثبات المعاد على حقيقته، وردهم على المتفلسفة في ذلك بأن فرض المعاد على الحقيقة لا يلزم من فرضه محال.

وهذه الطريقة التي استعملها الكثير من متكلمي المعتزلة والأشاعرة ليست طريقة محققة في العقل؛ لأن مبنية على عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع ليس علماً بعدم الامتناع؛ بخلاف الطرق المذكورة في القرآن والسنة وكلام السلف في إثبات المعاد؛ فإنها مبنية على العلم بلزوم ثبوت هذا من حيث قياس الأولى الذي يقر به سائر العقلاء، وتجد أن المثال الذي وقع عليه القياس مستقر في سائر عقول بني آدم حتى الكفار ..

وهلم جرا.

وهذا يحصل منه نتيجة أخيرة وهي: أن هؤلاء وإن كان لهم اشتغال بالرد على المتفلسفة وأمثالهم -أعني: المتكلمين- إلا أنهم في الجملة لم يحققوا، وإن كان لهم مقام حمد من حيث الجملة في هذه العناية، ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله المتفلسفة قال: وقد صنف نظار المسلمين في الرد عليهم والطعن عليهم.

ثم ذكر بعض مصنفات المعتزلة وبعض مصنفات الأشاعرة، فهذا مما يحمدون فيه؛ من حيث أنهم قصدوا رد ما هو مخالف لدين الإسلام، لكن من حيث الحقيقة التي استعملوها في هذا الرد والطرق التي سلكوها والمعاني التي التزموها هذا هو الذي يقع لهم فيه كثير من التأخر والقصور.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015