[أهل التخييل].
أهل التخييل سموا بذلك لأنهم زعموا أن القرآن وخطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وعموماً يرون ذلك مطرداً في الكتب السماوية والشرائع النبوية- تخييل للجمهور، وليست هي الحقائق العلمية في نفس الأمر، وهذا هو مذهب المتفلسفة، وقد انتسب إليه في الإسلام قوم من هؤلاء، وهؤلاء كان ظهورهم بعد ظهور المتكلمين وبعد انقراض القرون الثلاثة الفاضلة في الجملة، وإن كان أصلهم نبغ في آخر القرن الثالث، لكن انتشار هذا المذهب كمذهب معروف كان بعد القرون الثلاثة الفاضلة في المائة الرابعة وما بعدها.
ومن أخص أئمة هؤلاء الذين ينتحلون هذا المذهب من الذين انتسبوا للإسلام أبو نصر الفارابي وابن سينا، وهم من المشارقة، وأبو الوليد بن رشد من المغاربة.
[وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف].
ومن سلك سبيلهم أي: تأثر بهم، من متكلم -كما هو شأن طائفة من غلاة المتكلمين الذين نقلوا المقالات الصريحة من الفلسفة واعتبروها، أو استدلوا بصريح كلام الفلاسفة، وإن كان المتكلمون في الجملة ولدوا كلامهم من كلام المتفلسفة، لكن منهم -أي: من غفلاتهم- من ينقل بالتصريح.
ومتصوف لأن نوعاً من الصوفية هم صوفية في الإطلاق، ولكنهم في نفس الأمر متفلسفة وهم الباطنية.
والباطنية صنفان: إما باطنية متشيعة، كما هو شأن الإسماعيلية والقرامطة وأمثالهم، ومن أئمتهم الذين صنفوا في هذا الباب على طريقة المتفلسفة أبو يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية، وهو ممن يقول برفع النقيضين -كما يقرر المصنف في كتبه الكبار-.
متصوفة أو باطنية، وهم الذين شاعوا كثيراً، وهم الذين عرفوا عند العامة بأنهم متعبدة متصوفة، وهم في الحقيقة متفلسفة باطنية كـ ابن عربي وابن سبعين والتلمساني -الذين يسمونه العفيف، ويسميه كثير من علماء السنة الفاجر التلمساني - وابن الفارض وأمثال هؤلاء.
ومتفقه يشير إلى أبي الوليد بن رشد، وبعض المغاربة المتفلسفة الذين عنوا بدراسة مذهب مالك؛ فإن لـ أبي الوليد بن رشد كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد، صنفه في الفقه المقارن، وهو كتاب -في الجملة- ملخص من كتاب أبي عمر بن عبد البر التمهيد، والكتاب له اختصاص يسير، وليس فيه تحقيق كثير حتى فيما اختص به، وهو سبب الخلاف؛ فإن هذه ميزة في الكتاب، لكن في الغالب أن ما سماه سبب الخلاف في المسألة المعينة لا يكون في نفس الأمر هو السبب الموجب للخلاف، وإن كان في أكثر الموارد يكون سبباً يؤثر في الخلاف.
فإنه إذا ذكر المسألة قال: وسبب الخلاف أنه جاء ظاهر قوله تعالى مع قول النبي كذا، أو ورود حديثين بينهما في الظاهر تعارض، وهلم جرا ..
فهذه الأسباب التي عينها ابن رشد -وهي التي جعلت كثيراً من طلبة العلم يثنون على الكتاب- ليست -في الغالب- هي الموجبة للخلاف في نفس الأمر، أي: من جهة أن أصل الخلاف انبنى عليها بين قدماء الأئمة، وإن كان لها نفسها شيء من التأثير، حيث إن السبب -في الغالب- لا يختص بمورد واحد، فهي شيء من السبب وليست هي السبب في نفس الأمر.
وثمرة هذا التفريق تظهر بهذا المثال: في مسألة مس الذكر أهو ناقض للوضوء أو ليس ناقضاً للوضوء؟ إذا قيل: إن سبب الخلاف هو التعارض بين حديث بسرة بنت صفوان وحديث طلق بن علي، ثم ضعف حديث طلق بن علي وقيل: إن الصواب من جهة الصحة هو حديث بسرة، ففي الغالب في النتيجة الفقهية أن يكون الخلاف انتهى إلى الرجحان، فإذا تحقق أن هذا هو السبب فإن الترجيح هنا سيكون مناسباً.
لكن إذا كان السبب عند الأئمة أخص من هذا أي: أن هذا الاستدلال الذي جعله ابن رشد سبباً إنما استدل به بعض أصحاب المذاهب، فهنا لا يكون الترجيح مناسباً، ومثال هذا: هل القصاص والقود يكون بالسيف وحده أو بما قتل به القاتل؟
قيل: إن في هذا تعارضاً بين ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا قود إلا بالسيف) وما جاء في القرآن: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] فإن رددت وقلت: هذا الحديث ضعيف ترجح عندك مباشرةً القول الثاني، لكن إذا فرضت أن سبب الخلاف ليس هو التعارض بين هذا الذي قيل فيه: إنه حديث مرفوع، وبين ظاهر القرآن لا يبقى أن الترجيح بالضرورة يلزم أن يكون مناسباً؛ ولهذا كان الإمام أحمد يعتبر هذا المذهب -الذي هو أن القود يكون بالسيف- بدلائل أخرى غير هذا الحديث.
[إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
ثم هم على قسمين: منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها].
كما هو طريقة المبشر بن فاتك، وهذا قول غلاة الملاحدة.
[وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين ..
وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية].
لأن الباطنية على هذين الصنفين في الجملة.
[ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق].
وهذا مذهب الجمهور من المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهما.
[ويقول هؤلاء: يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل.
قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد ..
فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر.
وأما الأعمال فمنهم من يقر بها].
وأما الأعمال أي: الأعمال الظاهرة.
منهم من يقر بها وغلاتهم من باطنية الصوفية وباطنية الشيعة يأولونها كما تأولوا نصوص المعاد ونصوص الصفات.
[ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر به العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم].
هذا هو الصنف الأول: أهل التخييل.
وهؤلاء ليس في شأنهم اشتباه، ولا ينبغي كثرة الاشتغال بالرد عليهم؛ لأنهم زنادقة في الجملة، وأصل مقالتهم مقالة منقولة نقلاً صريحاً عن الطوائف الفلسفية المتقدمة، ولهذا اتفق المسلمون -حتى أهل الكلام وجمهور طوائف المتصوفة وغير هؤلاء- على ذم هؤلاء، وبيان أنهم مارقون عن دين الإسلام.
وأما الشأن الذي وقع فيه الاشتباه: فهم أهل التأويل، وهم أهل الكلام، أو أهل التجهيل وهم طوائف من المنتسبين للسنة والسلف.