[لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق.
فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير.
ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة -من المتأولين لهذا الباب- في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها].
بدأ المصنف هنا يضرب أمثلةً، وهي أنهم يقولون: تعارض العقل والنقل.
فيقول: إن العقل الذي يزعمونه معارضاً للنقل يضطربون فيه، فالمعتزلة يقولون: إن العقل يحيل الرؤية.
في حين أن جمهور الأشاعرة يقولون: العقل يدل على ثبوت الرؤية ..
وهلم جرا.
[وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: أن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل].
بمعنى أنه لا يمكن أن يكون العقل مصدراً للتلقي؛ لأنه لا يمكن أن ينضبط، والدليل على ذلك: أن من هؤلاء الطوائف الذين استعملوا العقل من يثبت شيئاً بالعقل ويزعم الآخر أن العقل ينفيه، فالأشاعرة -مثلاً- تقول: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة صفات تثبت بالضرورة العقلية ..
لكن المعتزلة تقول: إن هذه الصفات منتفية بالضرورة العقلية.
ويقول المتكلمون: نعيم الجنة يثبت بضرورة العقل، لكن المتفلسفة تقول: هذا النعيم لا يثبت بضرورة العقل، بل العقل يدل على نفيه ..
وهلم جرا.
إذاً: الدليل على أن العقل ليس دليلاً ومصدراً للمعرفة الحقة أن من شرط الدليل الحق -وهذا قاعدة-: أن يكون قابلاً للاطراد إذا أُحسن النظر فيه، والعقل لا يمكن أن يكون قابلاً للاطراد مهما وقع النظر فيه على جهة من الحسن؛ لأن العقل يغلب عليه إشكالان:
الأول: أنه يغلط فيه من يغلط.
الثاني: أنه لا يمكن أن يطرد؛ لأن العقل قوة قاصرة.
إذاً: يمتنع أن يكون دليلاً؛ لأنه لا يقبل الاطراد من جهة قصوره ومن جهة اختلاف الناظرين فيه، حتى لو افترضنا جدلاً أن الناظرين يتفقون في العقل فنقول: يمتنع أن يكون دليلاً مطرداً؛ لأنه لا يقبل الاطراد؛ وذلك لأن العقل قوة قاصرة، كما أن البصر قوة قاصرة، فلا يمكن للإنسان أن يبصر ببصره كل شيء؛ فكذلك العقل لا يمكن أن يدرك به كل شيء.
[ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل].
وهذا دليل قاطع: أنه إذا تناقض المخالف تحت القاعدة الواحدة أو تحت الدليل الذي يزعمه دليلاً -وهو الدليل العقلي- وتناقضوا فيه دل على أن هذا الدليل الذي زعموه ليس دليلاً حقاً.
[بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله ..
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟!].
أي: هب أن القرآن يحتاج إلى تأويل عقلي، فبأي عقل هذا التأويل؟
هل هو بعقل الأشاعرة أو بعقل المعتزلة أو بعقل الماتريدية أو بعقل المتفلسفة أو بعقل الكرامية أو بعقل المشبهة ..
وهلم جرا من الطوائف؟
وهذا يدل على أنه يمتنع أن يرد الله سبحانه وتعالى المعرفة إلى عقول متناقضة مختلفة، أو إلى عقول تلقت معقولها من قوم هم من أعظم من ناقض الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم المتفلسفة الذين بعث فيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقد أسلفنا أن أجوبة السلف رحمهم الله في هذا الباب هي أسد الأجوبة، ولهذا من يقول: إن علماء السلف لم يشتغلوا بالردود العقلية.
نقول: هم لم يشتغلوا بالردود العقلية حسب التنظيمات العقلية الاصطلاحية، لكن أن تكون جوابات السلف ليس فيها جوابات عقلية ..
فهذا غلط على السلف، فقد تقدم معنا أن في جواب الإمام أحمد في مسألة العلو ومسألة القرآن أجوبة عقلية، وإن كان قد لا يستعمل فيها الاصطلاحات العقلية.
والإشكال أن بعض طلبة العلم وبعض الشباب كما أن هذا وقع فيه بعض النظار: ظنوا أن الدليل العقلي هو الدليل الذي ينظم باصطلاحات الفلسفة أو المنطق أو علم الكلام، فإذا لم يستعمل ضمن الدليل كلمة الجوهر والعرض والهيولى ..
إلخ ظن أن الدليل ليس دليلاً عقلياً، مع أن الأمر ليس كذلك، ولهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: الدلائل العقلية معتبرة بمعانيها التي يقبلها العقل، وليس بترتيبها واصطلاحها، فإن التركيب والاصطلاح يختلف فيه الناس، أما الترتيب فلأن العقول تختلف، وأما الاصطلاح فلأنه عبارة عن لسان، واللسان بين بني آدم يختلف، بخلاف المعنى المدرك؛ فإنه لا يختلف بين بني آدم.