ظهر في المائة الثانية بعد انتهاء عصر الصحابة الغلط في مسألة الصفات، وقد ظهر هذا لما تكلم الجعد بن درهم في هذا الباب بإنكار صفات الرب سبحانه، ثم ظهر ذلك على يد الجهم بن صفوان، ونسبت المقالة إليه، وشاعت هذه المقالة في المائة الثالثة كثيراً لما عرِّبت الكتب الفلسفية التي كانت هي مادة نفاة الصفات في هذا الباب.
وقد ظهر بعد ذلك المتفلسفة كـ يعقوب بن إسحاق الكندي وأبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا، ثم ظهرت الفلسفة في بلاد المغرب عند أبي الوليد بن رشد، وأمثال هؤلاء.
والذي أحب أن أشير إليه هو أنه إذا وقعت البدعة على درجة من الغلو والانحراف عن مذهب السلف -ولا سيما في مسألة الانتحال والانتساب- فإن هذه وإن كانت أشد من جهة الضلال إلا أنها لا تكون من محال الالتباس، ولهذا لم تلتبس البدع المغلظة على أحد في زمن السلف رحمهم الله، لكن الإشكال وقع بعد عصر الأئمة -بعد القرون الثلاثة الفاضلة- لما جاء قوم انتسبوا للأئمة، وطائفة منهم انتسبوا للسنة والجماعة، وخلطوا قول أهل السنة بقول المتكلمين المتقدمين الذين كانوا على درجة من الغلو في بدعتهم.
وهذه المسألة -مسألة الصفات وما يتعلق بها- هي المسألة التي عني المصنف رحمه الله ببسطها هنا، فقد قصد في هذا الكتاب إلى ربط المذهب الذي نشأ عند المتأخرين من المتكلمين بالمذهب الذي كان عليه قدماؤهم، مع أن الناظر في كتب المتأخرين من المتكلمين، ومن تأثر بهم من شراح الحديث -وهم فضلاء من كبار أهل العلم وحفاظ الحديث والفقهاء وأهل الأصول- يجد أنهم يطعنون على المتقدمين من المتكلمين كثيراً، ويثنون على متأخريهم، ويرونهم من أهل السنة والجماعة.
وقد كان الناس في زمن الأئمة بعد ظهور هذه البدعة على أحد مذهبين:
الأول: مذهب السلف، وهو الذي عليه الجمهور من المسلمين.
الثاني: مذهب طائفة انحرفوا ببدعتهم، وهم الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات.
وكان هناك مذهب التشبيه عند قدماء الرافضة كـ هشام بن الحكم، وهشام بن سالم
وأمثال هؤلاء، ثم انحرفت الشيعة الإمامية بعد ذلك إلى مذهب المعتزلة؛ حتى أصبح الشيعة فيما بعد المائة الثالثة -في الجملة- على طريقة المعتزلة، وإن كان قدماؤهم مشبهة، وهذا يدل على التناقض المحض في هذا المذهب.
لكن في آخر عصر الأئمة رحمهم الله ظهر قوم من المتكلمين اشتغلوا بالرد على المعتزلة، وانتسبوا للسنة والجماعة، ولكنهم كانوا من جهة الأصول والتقعيد -في الجملة- يستعملون الأدلة الكلامية الحادثة التي أسسها أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة، ومن أخص من تكلم بهذا عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان هذا في زمن الإمام أحمد، ولما ظهر بطلان قول المعتزلة في مسألة القرآن، وظهر انتصار مذهب أهل السنة في زمن المتوكل، وكثر رد علماء السنة والحديث على المعتزلة القائلين بخلق القرآن كان عبد الله بن سعيد بن كلاب هذا -وهو من علماء الكلام- ممن اشتغل بالرد على المعتزلة، وقد أطلق عبارات فيها اشتباه، فقال: القرآن حكاية عن كلام الله، والله يتكلم ولكن الكلام معنىً واحد يقوم في النفس ليس بحرف وصوت.
فصار عنده جملة من قول أهل السنة وهي قوله: إن القرآن ليس مخلوقاً، وأن الله موصوف بالكلام.
ولكنه أتى بقول محدث وهو قوله: إن القرآن ليس كلام الله حقيقة ولكنه حكاية، وأنه كلام نفسي ليس بحرف وصوت.
فهذا القول أسس بدعة فيما بعد، وهي بدعة نفي الصفات الفعلية، وهذه البدعة صارت مزلة أقدام لكثير من فضلاء أهل العلم.
وقد كانت المعتزلة تنفي الصفات اللازمة والفعلية -كالنزول والاستواء- وكان السلف يثبتون الصفات اللازمة والفعلية، فجاء ابن كلاب وأثبت أصول الصفات اللازمة في الجملة ونفى الصفات الفعلية، واستعمل في نفيها دليل الأعراض الذي استعملته المعتزلة، لكنه اختصره بعض الاختصار، حيث قال: إن العرَض ليس هو ما يقابل الجوهر مطلقاً ولكنه ما يعرض ويزول ولا يبقى زمنين؛ فمن هنا تحصل له إثبات أصول الصفات ونفي الصفات الفعلية.
ثم انتسب أبو الحسن الأشعري بعد ترك المعتزلة إلى أهل السنة والجماعة، ولكنه نصر طريقة ابن كلاب، ولم يكن يعرف مذهب أهل السنة والحديث بالتفصيل، وإنما كان يعرفه مجملاً، وهذا ليس تقولاً على الأشعري، فإننا نجد هذا ظاهراً في كتابه مقالات الإسلاميين، فإن الناظر في حكايته لمقالات المعتزلة يجد أنه يفصل مقالات المعتزلة على التمام، حتى يذكر قول أبي علي الجبائي وحده، وقول أبي الهذيل العلاف وحده، وقول أبي إسحاق النظام وحده، وكذلك عند ذكره لمقالات المرجئة، والشيعة، لكن عندما أتى لقول أهل السنة والحديث قال: جملة قول أهل السنة والحديث
ثم ذكر كلامهم كجمل مجملة، لا تتجاوز قدراً يسيراً مما ذكره عن المعتزلة، ثم ختم قول أهل السنة بقوله: وبكل ما قالوا نقول.
فـ الأشعري التزم جمل أهل السنة، ولكنه لم يعرف تفاصيل المذهب؛ ولهذا صار يطلق جملاً عند الكلام عن مذهب أهل السنة، ثم إذا جاء لشرح هذه الجمل في كتبه المفصلة اختلف معهم، فقد التزم قول أهل السنة في كتابه المقالات، وهو أن الإيمان قول وعمل، لكنه في كتابيه الموجز واللمع قال: الإيمان هو التصديق وحده، والعمل ليس من الإيمان.
وقال في القدر بنظرية الكسب، والأشاعرة من بعده يقولون: إن الكسب جبر متوسط كما يعبر الشهرستاني، أو إن العبد مجبور في صورة مختار كما يعبر الرازي، فهو نوع من الجبر ولكنه ليس جبراً محضاً ..
فهذا اختلاط مذهبي كبير في مذهب أبي الحسن الأشعري.
ومثل هذا وقع عند أبي منصور الماتريدي الحنفي، فإن مذهب الماتريدية من جنس مذهب الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة خيراً منهم في المذهب، بل -لا شك- أن الإمام الأشعري -وقد كان معاصراً للماتريدي - أقرب إلى السنة والجماعة وأكثر عناية بمذهبهم وأكثر تعظيماً للسنن والآثار، فهو ينتسب لقول السلف بالتصريح، بل قال في مقدمة كتاب الإبانة عن أصول الديانة: فإن قيل: قد أبطلتم قول الخوارج والمعتزلة والروافض فخبرونا قولكم الذي تقولون به، ودينكم الذين تدينون الله به.
قال: فنقول ديننا الذي ندين الله به هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، ثم قال: ونحن بكل ما يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما يعتقده معتقدون، فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل
إذاً: كان الأشعري مجتهداً في إصابة مذهب السلف، لكن لأنه مضى عليه ما يقارب الأربعين سنة في الاعتزال لم يدرك مذهب السلف على التفصيل، فهو انتسب إلى أهل السنة لكنه لم يحقق مذهبهم، فقد أتى بمذهب ملفق من مذهب أهل السنة وبعض كلام المعتزلة -الذي خفي عليه الترتيب فيه، وإن لم يخف عليه أصل المذهب- وشيء من مقالات المرجئة، وشيء من مقالات الجهمية بنوع من التخفيف، فليس هو جهمياً محضاً في مسألة واحدة، لكنه قارب الجهمية في بعض المسائل، وبخاصة في مسألة القدر، في نظرية الكسب التي هي نوع من الجبر.
وهذا التحقيق ليس بالضرورة أن يقال: إن الذي حققه وقرره هو شيخ الإسلام أو غيره من أهل السنة والجماعة -وإن كان يقرره شيخ الإسلام - لكن أيضاً نقوله لأنه حتى الأشاعرة في كتبهم يقررون هذا، فقد قال أبو جعفر السمناني: إن القول بإيجاب النظر بقية بقيت في مذهبنا من مذهب المعتزلة.
وكذلك الرازي، فقد ذكر أن المذهب شارك الجبرية في مسائل كثيرة، وغيرهما من الأشاعرة أيضاً ذكره في كتب الأشاعرة.
وكتاب الأشعري الإبانة كتاب فاضل في الجملة، وإن كان لم يفصح فيه بالتفصيل كثيراً، لكن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: ومن قال منهم -يعني الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة.
لكن صار مجرد الانتساب للأشعري بدعة؛ لأنه عرف بالانحراف عن كثير من أصول السلف وإن كان من جهة الانتماء والانتساب عني كثيراً باتباع مذهب السلف، لكن فرق بين مسألة الانتماء وبين مسألة تحقيق المذهب في نفس الأمر؛ فإن الأشعري من جهة الانتماء انتماؤه سني سلفي بعد الاعتزال، لكن من جهة تحقيق المذهب هو لم يحقق مذهب السلف في كثير من الموارد، بل أصابه في مسائل وأخطأه في مسائل، ولهذا قوله في أكثر أصوله مركب من كلام أهل السنة وكلام غيرهم، أما في الانتساب فهو لا ينتسب بعد الاعتزال إلا للسلف، وهذا شأن ثابت له.
أما الماتريدي فهو ليس بدرجته، وإن كان يقارب طريقة المتأخرين من الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني؛ فإن أبا المعالي الجويني قد نزل بالمذهب الأشعري عن طريقة الأشعري كثيراً، وهذه المسألة من المهم أن ينتبه لها في المذهب الأشعري على وجه الخصوص، وهي أن المذهب كلما تقدم التاريخ كان أفضل، بمعنى أن كلام الأشعري خير من كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، وكلام الباقلاني أقرب إلى السنة والجماعة والنصوص من كلام أبي المعالي الجويني وعبد القاهر البغدادي، وكلام الجويني في الجملة أقرب من كلام محمد بن عمر الرازي.
والمعتزلة في الغالب على العكس، فإن المتأخرين من المعتزلة في الجملة خير من المتقدمين؛ لأن المتأخرين من المعتزلة عنوا بالانتساب الفقهي لـ أبي حنيفة على وجه الخصوص، ولهذا تأثروا بأصحابهم من أهل السنة من الحنفية.
حيث إننا