[وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات].
أبو بكر بن فورك متكلم أشعري، وهو يعتبر من متقدمي الأشاعرة، وهو في الجملة من فضلائهم، أي: ليس هو بمنزلة الجويني والرازي وأمثالهما، وإن كان الباقلاني خيراً منه في هذا، والأشعري خيراً من الباقلاني، فـ ابن فورك يقارب طريقة الباقلاني وإن كان ليس عليها؛ لأن الباقلاني أقرب إلى الإثبات من أبي بكر بن فورك، وإن كان لـ ابن فورك اشتغال بالآثار مشهور أكثر من اشتغال القاضي الباقلاني.
وله كتاب التأويلات، وقد رد عليه القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه إبطال التأويلات، وكتاب أبي يعلى مطبوع.
[وذكرها أبو عبد الله بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس].
هذا من أخص كتب الرازي، وهو ليس طويلاً، وقد رد عليه شيخ الإسلام في كتابه نقض التأسيس الذي طبع جزء منه، وحقق الآن كاملاً، ويكاد يطبع إن شاء الله قريباً.
[ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي].
أبو علي الجبائي معتزلي، والمصنف رحمه الله يريد أن يربط هذه المذاهب المتأخرة حتى ولو لم يكونوا أشاعرة.
[وعبد الجبار بن أحمد الهمداني].
هو عمدة المتأخرين المصنفين في مذهب الاعتزال، له كتاب المغني -مطول- وشرح الأصول الخمسة، والمحيط بالتكليف، والمختصر في أصول الدين، وكتب في أصول الفقه، وهو متكلم معتزلي من كبار متأخريهم.
وفي الجملة أن من يدافعون عن مذهب المعتزلة في هذا العصر، أو يمتدحون بعض طرقهم ومقاماتهم ومقدماتهم إنما هم عيال على كتب عبد الجبار بن أحمد، وخاصة المغني وشرح الأصول.
[وأبي الحسين البصري].
أبو الحسين البصري من المعتزلة الحنفية، لكنه أقرب من عبد الجبار بن أحمد، وهو صاحب المعتمد في أصول الفقه، وقد خلط في هذا الكتاب الأصول الفقهية بكثير من الأصول الكلامية العقدية.
[وأبي الوفاء بن عقيل].
أبو الوفاء بن عقيل حنبلي، وليس له انتماء كلامي؛ فإن الحنابلة -في الجملة- حتى إذا غلطوا لا ينتمون للمذاهب الكلامية، وإن كان ابن عقيل رحمه الله قد درس في أول أمره على أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التباني المعتزليين، وكان من أصحاب أبي الحسين البصري المعتزلي، حتى إنه مال إلى شيء من كلام المعتزلة، وتأثر بكثير من كلام الكلابية وبخاصة في الصفات الفعلية، وصنف في هذا كتباً، وامتدح التأويل في بعضها، لكنه في آخر أمره رجع في الجملة إلى طريقة مقاربة لطريقة أهل السنة المحضة.
[وأبي حامد الغزالي وغيرهم].
أبو حامد الغزالي من فقهاء الشافعية، ومن أهل أصول الفقه الكبار، له المستصفى في أصول الفقه، وهو أشعري متكلم متصوف، وهو حسن الكلام في السلوك لولا ما خلط في سلوكه من المواد الثلاث: الأحاديث الموضوعة، وترهات الصوفية، والمادة الفلسفية التي تكلم فيها في التصوف.
وهذا لا يستغرب؛ فإن كثيراً من الفلسفة على طريقة التصوف العرفاني والإشراقي؛ ولهذا لما تكلم أبو حامد عن مقامات العارفين في كتبه -هذه المقامات التي ذكرها وامتدحها- نقلها من كلام الحسين بن عبد الله بن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات، بل يلخص نفس الكلام الذي قال ابن سينا، وهو يذكره في إحيائه وغيره، ولكن مع ذلك فالإحياء غالبه -كما قال شيخ الإسلام - جيد، أي أن فيه كلاماً حسناً في تقرير مسائل القلوب وغيرها، ولكن فيه أغلاط شديدة.
[وهي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً].
أي: أنهم ليسوا على طريقة الجهمية المحضة، ولا على طريقة غلاة المعتزلة المحضة، بل لهم كلام حسن في أشياء، وإنما محل ذمهم ليس فيما وافقوا فيه السنة؛ فإن هذا مما يمتدحون به ولكن في مواضع التأويل؛ فإن التأويل مادته واحدة، وهي المادة الجهمية.
[ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري.
صنف كتاباً سماه رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد في ما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها].
أقعد بها أي: أعلم بقواعدها.
[وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته ومن جهة غيره].
من جهته وجهة غيره، ومن الجهات التي دخلت على بعض هؤلاء -كـ الرازي مثلاً- الجهة الفلسفية التي نقلها عن ابن سينا.
[ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفه ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم].
هذا هو الربط.
إذاً: المصنف في هذا المقام يبين أن أصل مقالة التعطيل ظهرت في أواخر عصر التابعين على يد الجعد بن درهم، ثم أظهرها الجهم بن صفوان، وأن هذه الطبقة لا إشكال فيها؛ فإنه حتى المعتزلة عند التحقيق يذمونها، وإن كانوا يتفقون معهم في حقيقة المذهب، لكن الموقف النظري عند المعتزلة هو التصريح ببطلان مذهب الجهم.
والطبقة الثانية: وهي طبقة المعتزلة الأولى، وهذه أيضاً اتفق السلف على ذمها، وليست محل اشتباه.
فأراد المصنف ذكر الربط في الطبقة الثالثة، وهم المتأخرون وبخاصة متكلمة الصفاتية أو حتى المعتزلة المتأخرة الذين انتسبوا لبعض الفقهاء الكبار كـ أبي حنيفة.
فيقول: أن العاقل وطالب الحق إذا رأى أئمة الهدى قد ذموا المريسية أو ذموا الجهمية أو ذموا المعتزلة الأولى علم أن هذا الذم يطرد في هذا التأويل الذي استعمله المتأخرون ولو كان أكثرهم ينتسبون للسنة والجماعة، وأن محض الانتساب لا يكفي إذا لم يكن المذهب موافقاً لهذا الانتساب.
[وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي تبين الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حولا ولا قوة إلا بالله].
قوله: وعلم أن هذا القول الساري أي: إذا علم أن القول الذي انتشر وشاع في هؤلاء المتأخرين هو مذهب بشر بن غياث وأمثاله من أئمة الجهمية الأولى أو المعتزلة الذين كانوا معطلةً للصفات، علم أن الحق يختص بما ذكره السلف، وأن المادة في التأويل واحدة.
[والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما أشير إشارةً إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير وينظر، وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة، لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه: مثل كتاب السنن للالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة لـ أبي ذر الهروي، والأصول لـ أبي عمر الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولـ أبي الشيخ الأصبهاني، ولـ أبي عبد الله بن مندة، ولـ أبي أحمد العسال الأصبهانيين، وقبل ذلك السنة للخلال، والتوحيد لـ ابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، والرد على الجهمية لجماعة مثل البخاري، وشيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي، وقبل ذلك السنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة لـ أبي بكر الأثرم، والسنة لـ حنبل، وللمروزي ولـ أبي داود السجستاني، ولـ ابن أبي شيبة، والسنة لـ أبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الرد على الجهمية لـ عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن محمد الخزاعي، وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن سعيد، ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم، وقبل: لـ عبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة].
ومن طالع هذه الكتب التي أشار إليها المصنف وما ماثلها من كتب السلف علم أن هذا القول الذي وقع في المتأخرين من المتكلمين فضلاً عن قول المعتزلة والجهمية مناقض لمذهب السلف رحمهم الله.