وَاحِدٍ مُجْتَهَدُهُ. لَهُمْ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّفُوا بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلَوْلَا تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهَذَا كَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ فَإِنَّ الْقِبْلَةَ جِهَةُ التَّحَرِّي حَتَّى أَنَّ الْمُخْطِئَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ. وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمَيْنِ جَائِزٌ كَمَا كَانَ فِي إرْسَالِ رَسُولَيْنِ عَلَى قَوْمَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَسَاوِي الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاحِدٌ مِنْهَا أَحَقُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اسْتَوَتْ لَأُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ وَلَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الِاجْتِهَادَاتِ تَتَّفِقُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونَ الْحَقُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــQدَفِينٍ فَلِمَنْ أَصَابَ أَجْرَانِ وَلِمَنْ أَخْطَأَ أَجْرُ الْكَدِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُخْطِئَ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ أَمْ لَا؟ وَفِي أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْخَطَأِ هَلْ يُنْقَضُ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ إنْ وَجَدَهُ أَصَابَ، وَإِنْ فَقَدَهُ أَخْطَأَ وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهَا لِغُمُوضِهَا وَخَفَائِهَا فَلِذَا كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْذُورًا بَلْ مَأْجُورًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي أَنَّ الْمُخْطِئَ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً مَعًا، أَوْ انْتِهَاءً فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

(قَوْلُهُ: لَهُمْ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّدِ الْحَقِّ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَإِصَابَةِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا مَرَّ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مُكَلَّفُونَ بِنَيْلِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ إذْ لَا فَائِدَةَ لِلِاجْتِهَادِ سِوَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَكَانَ الْمُجْتَهِدُ مَأْمُورًا بِإِصَابَتِهِ بِعَيْنِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ لِغُمُوضِ طَرِيقِهِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِ فِي الْحُكْمِ كَاجْتِهَادِ الْمُصَلِّي فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَالْحَقُّ فِيهِ مُتَعَدِّدٌ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَاهُنَا لِعَدَمِ الْفَرْقِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْحَقَّ فِيهِ مُتَعَدِّدٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ إلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قِبْلَةً لَمَا تَأَدَّى فَرْضُ مَنْ أَخْطَأَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ.

فَإِنْ قِيلَ: تَعَدُّدُ الْحَقِّ يَسْتَلْزِمُ اتِّصَافَ فِعْلٍ وَاحِدٍ بِالْمُتَنَافِيَيْنِ كَالْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَاللُّزُومُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ فَالِاسْتِحَالَةُ مَمْنُوعَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَجِبَ شَيْءٌ عَلَى زَيْدٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى عُمَرَ وَكَمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ بِأَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَيْنِ إلَى قَوْمَيْنِ مَعَ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَحْكَامٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا عَلَى مُجْتَهِدٍ وَعَلَى مَنْ الْتَزَمَ تَقْلِيدَهُ، غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى آخَرَ وَعَلَى مُقَلِّدِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحَقِّيَّةِ الْجَمِيعِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي الْحَقِّيَّةِ وَبَعْضُهُمْ إلَى كَوْنِ الْبَعْضِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015