ترعرعت فيه المذاهب الفكرية والعقدية والفقهية المختلفة. فللمعتزلة سلطانهما الأدبي والسياسي ولأهل الحديث سلطانهم الأثري والشعبي وللخوارج والشيعة والسنة أشياعهم ونضالهم في دعوة الناس إلى مذاهبهم ونشرها على أوسع نطاق، ويلتقي في المناظرات في المساجد أو في بلاط الخلفاء أعلام كل مذهب مجادلين عما يعتقدون أنه الحق. كما أن للفقهاء مجالس المناظرة وحلقات الدروس التي لا يبرز فيها إلا من كان قادرًا على جعل الاحتكام إلى النظر يؤيد مقالته وينصر مذهبه. ولا يقبل فيها قول لا سند له. ولا رأي لا يقوم على دليل. فتمرنت العقول على المحاجة وعلى نقد ما عند الآخرين. والاستعداد للمطاعن التي يوردها الخصم. وحفلت تبعًا لذلك كتب الفقه وطريقة التدريس بهذا النوع من الربط بين الفقه وأدلته ومن الطعن في أدلة المخالفين وتوهين مذاهبهم.
وأما القيروان التي كانت منارة العلم في العدوة الغربية من العالم الإِسلامي. فلم تكن محتكة بالحضارات السابقة المتباينة، ولم يستطع أن يثبت فيها على النطاق الشعبي العام إلا المذهب المالكي بقيام أساطين المذهب على غرسه وتعهده ونموه. من علي ابن زياد والبهلول بن راشد وسحنون إلى الشيخ ابن أبي زيد وتلاميذه. وإن حفظت أسماء لبعض علماء الحنفية إلا أنه لم تحفظ مناظرات بينهم وبين المالكية. وأما الشيعة فقد ارتبطت بالسلطة الحاكمة فعفا أثرها بانتهاء القوة الحاكمة. ولذا كان المعول عندهم على المدونة دراسة وتحقيقأومقابلة بين أبوابها والإجابات الواردة في الموضوع الواحد أو المتقارب. وكثرت شروحها والتعاليق عليها. ومختصراتها.
فالمازري يظهر في العدوة الغربية كمتفرد عن طريقة المدرسة القيروانية وخاصة في شرحه على التلقين فهو معجب بالطريقة العراقية ترسم خطاها دون أن يهجر الطريقة القيروانية. وهو بجمعه هذا يكون مدرسة خاصة في كتابة الفقه في المذهب المالكي. وهو ما يشير إليه في نظري قول القاضي عياض: وليس للمالكية كتاب مثله (?). فهو من ناحية يتتبع المدونة. وعندما وجد القاضي