قد اشتمل الحديث الأول على فصول، تكلمنا منها على التصرية، وعلى التلقي. وفي هذا الحديث نهيه عليه السلام عن بيع حاضر لباد.
وقال العلماء: إن وجه المصلحة في ذلك النظر لأهل الحاضرة على أهل البادية، لكون الحواضر مجتمع الخلق الكثير، ومواضع الأئمة والقضاة والعلماء، فلهم من الحرمة ما ليس لمن هو دونهم في هذه الأوصاف، كأهل البوادي التي الغالب فيها قلة الناس، وعدم الأئمة. وأيضًا فإن الأكثر في أموال أهل البوادي، الذي يأتون به الحواضر ليبيعونه، غلات من أشجار تخلف ما باعوه، وتؤتي أكلها كل حين، ومواش يتكرر اغتلال ألبانها وأصوافها فبالشراء منهم برخص لا يضرهم، كما يضر أهل الحواضر الشراء بثمن غال لأنهم إنما يتجرون بأموال لا يخلف ما فقد منها إلا بتجْر وسعي وطلب أرباح، ومع السعي قد لا يحصل الربح. فاقتضى هذا طلب الاسترخاص في أموال أهل البوادي.
وذلك إنما يحصل إذا باشروا البيع بأنفسهم. وأما إذا باع السمسار الحضري فهو لا يغبن لمعرفته بالأسعار وطرق المماكسة.
وهذا التعليل الذي ذكروه يقتضي تخصيص الحديث على حسب ما خصصه به مالك رضي الله عنه، فإنه أشار في الموطأ وغيره إلى أن الحديث محمول على الأعراب، أهل العمود، الذين يجهلون الأسعار. فصار هذا كتخصيص عموم بعلة استُنبطت منه. وهذا مما يقدح فيه بعض الأصوليين ويمنع من تخصيص عموم بعلة منه، لأن ذلك كفرع يناقض أصله، وإذا ناقض الفرع أصله لم يتمسك إلا بالأصل دون الفرع. ولأجل هذا الذي نبهنا عليه أشار مالك في رواية أخرى إلى حمل الحديث على عمومه. فقال في الموازية: أما أهل القرى الذين يشبهون البوادي، فلا يبيع لهم الحاضر ولا يشير عليهم. وإذا كان (?) وفيما بعد ذلك بالصحراء على الميلين من القرية، فلا يبيع لهم الحاضر، كانوا يعلمون السعر أو لا يعلمونه.