والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما ما يعود بمصلحة أهل السوق في أنفسهم، فإن ابن القصار ذكر: أن مالكًا رضي الله عنه قال: من حطّ من السعر قيل له: الْحَقْ بسعر الناس أو فاخْرج من سوقهم.
واختلف أصحابنا في تأويل كلامه هذا. فقال البغداديون من أصحابنا: مراده بقوله: من حطّ من السعر: أغلى في السعر. قال: وقال بعض المصريين من أصحابنا: مراده بقوله: من حط من السعر؛ أي أرخص فيه. وهذا قد يسبق إلى فهم سامع هذا اللفظ أن المراد بقوله: حط؛ أي أرخص؛ كما قاله المصريون من أصحابنا، الذين حكى عنهم ابن القصار. لكن ما قاله البغداديون من قولهم: إنه أراد بقوله: حطّ؛ أي أغلى. فإنه يتصور في كثير من البلاد؛ وهم الذين يبيعون مثلًا الخبزة بدرهم وفيها رطل، فيعمد آخر في السوق فيبيع بدرهم، ولكن يجعل وزن الخبزة نصف رطل، فكأنه حطّ في وزن المبيع، وهي في الحقيقة غلاء في الثمن. فهذا الذي ذكر ابن القصار؛ ولكنه قال: إن الوجهين ممنوعان عندي، أن يبيع بأغلى أو بأرخص، لأن الأغلى إذا باع به كان فيه تغرير بمن يشتري منه، وإن باع بأرخص كان فيه مضرة بأهل السوق في تكسيد سلعهم. واعتبار ضرر الأكثر أولى، وليس هذا من التسعير ولكنه من رفع الضرر. وقد ردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسرى على الكفار بعد إسلامهم، لما في ذلك من المصلحة لعامة المسلمين في كون الكفار يعتقدون الثقة بما يعاهدونهم عليه.
ولكن الرواية المشهورة عندنا في هذا أن أهل السوق إذا اختلف بيعهم، فأرخص بعضهم وأغلى بعضهم، فإنه إن كانت الفئتان متساويتين في العددين أو متقاربتين، فإنه لا ينكر على المرخصين ويقَرّون على ما هم عليه؛ لأن ما فعلوه هو أنفع للجمهور وأصلح لهم. وينظر في الفئة الأخرى التي أغلت في الثمن.
فإن قلنا بمنع التسعير، على أحد القولين، لم ينكر عليهم، أيضًا، ويبقى السوق