وقد سهل القاضي ابن الطيّب في المقام ببلد الحرب لرجل مسلم يضطرّ إليه مَن بذلك البلد من أسرى المسلمين في تعليم ما افترض عليهم في الشريعة والاقتداء به، وهديهم إلى الحقّ وهدي غيرهم، وهذا جار على أسلوب ما قدّمناه من إجازة السّفر إليهم لأمر يوجبه الشّرع من فكاك أسير وبيان ما افترض على المسلم.
وأمّا التجريح بالسّفر إليهم فقد قدّمنا ما قاله سحنون وغيره. وكان قد نزل عندنا بالمهديّة منذ نيف وأربعين عامًا شدّة احتاج النّاس فيها إلى السّفر إلى صقلية ليرخص الطعام عندنا لكونه قد عدم. فتخاصم رجلان وانتهى أمرهما إلى السّلطان، وقام أحدهما بشهادة رجل قدح خصمه في عدالة الشاهد لكونه سافر إلى صقلية. وهي وإن كانت الأكثر من سكّانها مسلمين فإن المسلّطين عليهم والمستولي على أهلها ملك من ملوك الرّوم وجنده الرّوم. فجمع السّلطان كل من يفتي بالمكان فاختلفوا، ووقف بعضهم في منع السّفر للحاجة إلى الطّعام.
فقلت لهم: ليس هذا ممّا يقتضي الرّخصة في السّفر إلى بلد العدوّ. وتلوت عليهبِم قَوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (?). فنبّه سبحانه على أنّ للمسجد الحرام حرمة وتنزهًا عن الأنجاس، والمشركون نجس. ثم نبّه سبحانه على أنّ الحاجة إليهم في جلب الطّعام إلى مكّة لا يرخّص في انتهاك هذه الحرمة، فكذلك الحاجة إلى امتيارِ الطعام من صقليّة لا يوجب الترخيص في السّفر إليها. فاستحسن أكثرهم هذا الاستنباط من القرآن، وبقي بعضهم على التوقّف. فكاتبنا في المسألة إمَامَنا أجمعين وكان ببلد آخر وقد انزوى وانْقطع إلى العبادة. فورد جوابه بأنّ هذا ليس بعذر يوجب الرّخصة في السّفر إليهم: وعلّل ذلك بأنّا وإن كنّا نتَقَوَّى بما نأخذه من الطّعام من عندهم، فإن ما نحمل إليهم من أموال المسلمين لكثرته لهم به قوّة علينا وشدّة تمكن في ملك من ما