جاء في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول ربكم: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقا).
معنى قوله: (تفرغ لعبادتي): أي: أفرغ قلبك من الدنيا، وليس المعنى: اجلس في بيتك ولا تعمل، ولا تطعم عيالك، ولا تفعل الخير، وليس معنى التفرغ للعبادة أن تصلي الليل والنهار وتصوم الدهر، وقد حاول بعض الصحابة أن يصنع ذلك، كـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقام الليل كله، وصام دهره كله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تفعل، إنك إن فعلته نكهت عيناك، وتعبت نفسك، (إن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يبين له ما الذي يصنعه من حقوق يكون بتأديتها متعبد لله سبحانه وتعالى، ولذلك جاء في الحديث: أن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، (يأتي أحدنا شهوته فيكون له أجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم، قال: فكذلك إن وضعها في حلال كان له أجر).
فالإنسان المؤمن حياته كلها عباده لله سبحانه، فإذا نام ليستريح من التعب وحتى يكمل بعد ذلك عبادة الله عز وجل كالقيام والصلاة والعمل من أجل الإنفاق على أولاده فنومه عبادة، وإذا نام ليقوم مستريحاً لهذه العبادة، أعانه الله عز وجل، إذاً: فمعنى التفرغ للعبادة: أن لا يملأ الإنسان قلبه بالدنيا، ويكثر من التمني، فكلما رأى أهل الدنيا في الملاهي، والمطامع، والشهوات يريد أن يكون مثلهم، فإذا بقلبه ممتلئ بفتن الدنيا، وشهواتها وآمالها وأطماعها، فلا يقدر على العبادة، ولن يأتيه من الدنيا إلا ما قسمه الله عز وجل له.
إذاً: فليس المطلوب من العبد أن لا يعمل ولكن المطلوب منه أن لا يطمع في الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن الله عز وجل أنه يقول: (لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى له ثانيا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
فعلى الإنسان أن يترك شهوات نفسه ولا يتمنى كل شيء في هذه الدنيا، فإنه لن يحصل منها إلا ما قسم له، فليرض بما كتب الله عز وجل له، وليأخذ الدنيا بالمعروف، ويجعلها في يده، كما كان الصحابة رضوان الله عنهم، يجعلون الدنيا في أيديهم، ولا يملؤون بها قلوبهم، فإذا جاءتهم الدنيا أنفقوا لله عز وجل، وعملوا له سبحانه، وطلبوا رضا الله، وفرحوا بأمره وأحسنوا عبادته سبحانه.
وفي الحديث وعد من الله لابن آدم أنه إذا أفرغ قلبه من الدنيا، ولم يجعلها تسكن قلبه أن الله عز وجل سيملأ قلبه غنى، أي: يجعله قلبه غنياً، وفي الحديث: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس) ومهما امتلأت يد ابن آدم من المال وقلبه متعلق بالدنيا فهو فقير، يستشعر الفقر، ويخاف من الفقر، فيخاف أن لا يضيع منه المال، ويصرف، أو يأتيه مرض تضيع فيه الثروة كلها، فهو في حيرة وخوف دائم، لكن لو أن قلبه امتلأ بالإيمان فلن يهتم بالدنيا أبدا، فإذا جاءه القليل منها حمد الله، وإذا جاءه الكثير منها حمد الله، فلا يهتم للقليل ولا للكثير، طالما أنه أخذ بالأسباب، ولن يأتيه إلا ما قسمه الله عز وجل له.
قوله: (يا ابن أدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقا)، ولم يقل: اقعد في بيتك بلا عمل، وصل وسيأتيك الرزق، فالأخذ بأسباب الرزق سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، وإن كان الله عز وجل لا يعجز أن ينزل له رزقاً من السماء، وهو جالس في بيته فالله على كل شيء قدير، لكن لم يجعل ذلك سبباً للرزق، إنما الأسباب أن يذهب الإنسان إلى عمله ويتعبد الله عز وجل بإتقانه، ويراقبه في صنعته وعمله والله عز وجل سوف يعطيه الرزق الذي وعده الله عز وجل به.
وقوله: (يا ابن آدم لا تباعد مني) أي: لا تتباعد من طريق الله أو عن طريق الله، فإذا فعلت ذلك، قال: (أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلا) أي: أن ترى المال يأتيك ليل نهار والأرباح تتكاثر عليك ولكنك تشعر بالفقر، وتشعر بأن هذا المال لا يكفي، وأنه سرعان ما ينتهي، أو يضيع أو يسرق، وتفتح لك أبواب تضع فيها هذه الأموال، فيشغلك الله بما آتاك من المال.
فالمعنى: أن الله لا يملأ يديك فقراً فقط، بل قد يملؤها مالا، ولكن القلب يجعله فقيرا، محتاجاً يحس دائماً بأنه محتاج للخلق، خائفاً أن يضيع منه المال، وهكذا فالعبد إذا تباعد من الله سبحانه، فليس في قلبه ثقة ولا يقين، لأنه تفرغ للدنيا فكان قلبه فارغا، وامتلأت يداه بالشغل ومع ذلك لم يشبع، ولم يكتف بما آتاه الله.
وهذه الأحاديث التي جاءت عنه صلى في هذا الباب كلها صحيحة.