ومن الأحاديث في ذلك حديث أنس بن مالك وحديث عبادة بن الصامت والمعنى واحد، ولفظ حديث عبادة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة)، ولفظ حديث أنس: (تقبلوا إلي ستاً أتقبل لكم بالجنة) والمعنى: احرصوا على هذه الستة، وكونوا ضامنين لهذه الستة متكفلين بأن تقوموا بها فأنا أتكفل لكم وأضمن لكم الجنة.
والستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي: (اصدقوا إذا حدثتم)، فبدأ بالصدق، وفي رواية أنس: (إذا حدث أحدكم فلا يكذب)، فالصدق منجاة ينجي الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، وقد يصيب الإنسان بسبب صدقه ابتلاء من الابتلاءات، ولكن الله عز وجل في النهاية ينجيه بصدقه، وقد رأينا ما صنع كعب بن مالك وما صنع المنافقون في غزوة تبوك، فـ كعب تخلف بغير عذر، وكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لن ينفعه إلا الصدق، فصدق، وكان معه اثنان من المؤمنين قد تخلفا عن هذه الغزوة أيضاً، فعاقب النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا، ثم كان في النهاية الفرج من الله عز وجل، فغفر لهم سبحانه وأنزل التوبة عليهم.
وأما المنافقون الذين اعتذروا كذباً للنبي صلى الله عليه وسلم فقد فضحهم الله عز وجل بكذبهم، وأنزل فيهم الآيات من سور البراءة يفضحهم بها.
فالغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث المؤمن وينصحه ويأمره بأنه إذا حدث فلا يكذب في حديثه.
قال: (وأوفوا إذا وعدتم)، وفي رواية أنس: (وإذا وعد فلا يخلف)، فإذا وعدت إنساناً بشيء تصنعه فلا تخلف وعدك إلا لعذر من الأعذار، فصاحب العذر معذور، ولكن لا تعد إنساناً ثم تخلف في موعدك من غير عذر.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا اؤتمن فلا يخن)، وفي حديث عبادة: (وأداو إذا اؤتمنتم)، فأنتم مؤتمنون على أمانات: على دينكم على صلاتكم على زكاتكم على وضوئكم على طهارتكم على عباداتكم، وأنتم مؤتمنون في معاملتكم مع الناس، فإذا ائتمنك إنسان على شيء فأد إليه هذه الأمانة كما أمرك الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
ثم ذكر ثلاث خصال فقال: (واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم).
قوله: (احفظوا فروجكم) فيحفظ المسلم فرجه إلا عن زوجه أو ملك يمينه.
وقوله: (وغضوا أبصاركم)، فالإنسان إما أن ينظر إلى ما أحل الله وإما إلى ما حرم الله، وإذا نظر إلى ما حرم الله اشتهى الحرام، ويصدق ذلك فرجه أو يكذبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسد الذريعة للوقوع في الزنا فيقول مؤدباً المؤمنين: (غضوا أبصاركم)، فإذا غضضت بصرك في الدنيا ومنعت نفسك وحرمتها من فتنة أمامها، فالله يعوضك من فضله ومن كرمه لذة إيمان وحلاوة إيمان تجدها في قلبك، فالذي يكف شره عن الناس، ويكف بصره عن أن ينظر إلى شيء حرمه الله عز وجل، يعوضه الله عن هذا الكف بإيمان يجد حلاوته في قلبه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وكفوا أيديكم)، فكف يدك فلا تمدها إلى حرام، فلا تسرق أموال الناس، ولا تخن، ولا تغدر، ولا تأخذ أموالاً في خلسة، ولا تسلب أموال الناس، فاحذر أن تمد يدك إلى حرام، فلا تمد يدك إلى مال الناس فتسرقه أو تغتصبه، ولا تمد اليد فتمسك بها ما حرم الله، فلا تلمس بها من النساء من حرم الله سبحانه، ولا تمد اليد فتسفك بها دماء أو تضرب بها ظلماً.
فقوله: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77]، فتعم الكف عن الحرام بجميع وجوهه.