ومن الأحاديث في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وجزاؤك من جنس عملك؛ فإذا سترت إنساناً في الدنيا سترك الله يوم القيامة.
ومن ذلك حديث يزيد بن نعيم عن أبيه: أن ماعزاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال: لـ هزال: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك).
وهزال رجل كان يربي ماعزاً، وماعز واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شاباً قوياً، وكان وهو صغير يتيماً، والذي رباه هو هزال، وماعز في يوم من الأيام لقي الحي خالياً، ولقي جارية في الحي فذهب وزنى بها، فلما زنى رآه هزال أو علم بعد ذلك بأمره، فقال: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله يجد لك حلاً لهذا الذي وقعت فيه، اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت؛ لعله يستغفر لك.
وهنا: كونه يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويفضح نفسه ما كان ينبغي ذلك، وإنما كان ينبغي أنه يستر عليه، ولكن كأن هزالاً غضب منه كيف يعمل هذا الشيء، فقال له: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، وبقي يردد عليه: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم اذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخيراً ذهب، وكان في ظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتركه، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وكان ماعزاً متزوجاً، والمتزوج إذا وقع في هذه الجريمة -جريمة الزنا- فالحد فيه الرجم، فيرجم بالحجارة حتى الموت.
فـ هزال كان عارفاً هذا الشيء، ومع ذلك نصح ماعزاً وقال له: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: زنيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ولم يرد عليه، فذهب وأتى إليه من الناحية الثانية وقال له: زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء أربع مرات يصر أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية قال له النبي صلى الله عليه وسلم -كأنه يصرفه-: (لعلك قبلت) يعني: يمكن أنت لقيت واحدة فقبلتها فرأيت أن هذا هو الزنا الذي يقام عليه الحد، فالرجل قال له: أنا ما قبلت، أنا زنيت، فقال: (لعلك لامست لعلك فاخذت) وهنا يتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم رحيم، لا يريد أنه يوقع الرجل فيرجم، ولكن الرجل كان مصراً، وإصراره بسبب هزال الذي كان مربيه، فإنه كان غضبان منه أنه زنى بجارية من الحي، فقال له: اذهب وخذ جزاءك من النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، فاستمر يقول له: (أبك جنون؟ أتدري ما الزنا؟ فقال: نعم)، إذاً: الرجل أقر على نفسه، فقال في الآخر: (خذوه فارجموه).
فأخذوه وحذفوه بالحجارة، فلما أذلقته الحجارة وأوجعته قام يجري هارباً، وقال: أعيدوني إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقد غرني هزال من نفسي، هزال ضحك عليّ وقال: لن يفعل فيك شيئاً، هزال قال لي: سوف يستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جرى تبعه رجل على بعير وضربه على رأسه وأوقعه، فرجموه، فلما بلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه حزن عليه، فقال: (هلاّ تركتموه؟ لعله يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأن الرجم هنا لم يكن بشهادة الشهود، وإنما كان بإقراره على نفسه، وبعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هزال: (يا هزال! هلا سترته بثوبك؟) لأن هزالاً هو الذي في البداية أمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بأنه زنى، ولو ذهب هو وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يقول له: لابد أن يكون معك ثلاثة شهود؛ لأن حد الزنا لا يقام إلا بشهادة أربعة يشهدون، وإذا كان هو وحده شهد فسوف يقام عليه حد القذف، فكأن هزالاً يريد أن يهرب من أنه هو وحده الذي قال ذلك فأوقع ماعزاً في أنه يقول ذلك، وأقيم عليه هذا الحد.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلَّا سترته بثوبك)، فيه: أن الإنسان إذا وجد إنساناً على معصية فإنه ينهاه عن هذه المعصية ويزجره، ولكن لا يفضحه إلا أن يكون مجاهراً بالمعاصي، فإذا كان مجاهراً بالمعاصي فهذا يستحق أن يفضح؛ لأنه هو الذي فضح نفسه، ولذلك فهناك فرق بين من أقر بالزنا -لأن المقر يريد أن يتوب- وبين الذي يشهد عليه أربعة أنهم رأوه أنه يزني، فإن هذا إنسان فاجر، فلذلك يرجم، وليس هناك كلام في مثل هذا، بخلاف من أقر على نفسه؛ فهذا علامة التوبة بادية عليه بإقراره على نفسه.
والغرض أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هزال: (هلا سترته بثوبك) ليس معناه: أنه يزني ويستر عليه، ولكن المعنى: استر عليه هذه الفضيحة، ولو كنت نهيته عن ذلك فيما بينه وبينك وسترت عليه لكان أولى من أن توقعه في مثل هذا.