قال رحمه الله: [فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيباً ممتنعاً.
وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوّز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع.
وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق -يُعدم بعدم وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي الذي لا يقبل العدم.
وإذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يُصرِّح بذلك أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير].
هذا الكلام التالي هو عبارة عن قاعدة ذهبية، هذه القاعدة تعتمد على نصوص الشرع وعلى العقل السليم، وهي التي ينبني عليها الحوار مع هؤلاء، سواء فيما سبق أو فيما يأتي، وهي قاعدة عظيمة ينبغي التنبه لها.
قال رحمه الله: [وهذا باب مطّرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً -فراراً مما هو محذور- إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلا بد في آخر الأمر من أن يُثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، فيُقال له: هكذا القول في جمع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات: فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال].
بهذا ندرك مدى جهل وخطأ وفرية الذين يتهمون السلف بالتشبيه، وهذه القاعدة هي عند السلف، فإنهم حينما يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء من الأسماء أو الصفات أو الأفعال، فإنهم إنما يثبتون ذلك على ما يليق بجلال الله، وعلى الحقيقة التي وصف الله بها نفسه كما يليق بجلاله، دون أن نتوهم الكيفيات، وأن الاشتراك اللفظي بين أسماء الله عز وجل وبين مسميات الخلق إنما هو تواطؤ في المسميات، ومن أجل خطاب البشر؛ لأنه لا يمكن أن يفهم البشر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته وعظمتها وكمالها إلا بلسان عربي مبين، ولولا أن الله وصف نفسه باللسان الذي نعرفه -مع أننا ندرك أن الكيفية ليست من مداركنا- لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم مع إيماننا بحقيقة ما ورد من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن ذلك أعظم مما يخطر على البال؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء.