قال رحمه الله: [وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20 - 21]، فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.
وقيل لك، ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر، أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك.
وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد.
وهؤلاء الباطنية منهم من يصرِّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما، ومنهم يقول: لا أثبت واحداً منهما، فامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق، وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدَّر قبوله لهما -مع نفيهما عنه- فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم: أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يقدر قابلاً لهما مع نفيهما عنه، وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود القبول وجب.
وقد بسط هذا في موضع آخر، وبُيِّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
وقيل له أيضاً: اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات: ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذِّب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل.
وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة.
وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع.
قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معان متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً].
هذا الرد على طائفتين، والشيخ رحمه الله قد خلط بين طائفتين: الطائفة الأولى: المعتزلة الخلَّص الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ويقولون: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف، وأن ذلك تركيب ممتنع.
والطائفة الثانية: فلاسفة ومتكلمة الصوفية الذين زعموا أنهم يتورعون عن وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه من الصفات، خاصة الفعلية والذاتية أيضاً، في حين أنهم لا يتورعون عن وصف الله بأوصاف أحدثوها من عند أنفسهم، وهذا أيضاً يوجد -كما قلت- عند الصوفية وعند الباطنية، مثل: وصف الله بأنه: عقل، وعاقل، ومعقول، وعاشق، ومعشوق، ولذيذ، وملتذ، ولذة، فهذه لا تليق بالله عز وجل، فإن ما سمى الله به نفسه وما وصف به نفسه يُغني عن مثل هذه الألفاظ المحتملة للمعاني، فهم حينما تورعوا بزعمهم، وحين ترددوا في إثبات ما أثبته الله لنفسه لم يتورعوا عن إطلاق هذه الألفاظ التي هي أقرب إلى التشبيه، فإنه لا يليق أن نصف ما يجب لله عز وجل من المحبة أنه عشق، فالعشق له معنى عاطفي، وله معنى أيضاً مفهوم عند البشر يخرج عن حد الاعتدال، ولا يليق أن تسمى العبادة لله عز وجل، وما يشعر به المسلم من السعادة وقرة العين بأنها لذة وملتذ، وكذلك ما يصف به فلاسفتهم من وصف الله بأنه عاقل، فإن هذا ليس من أوصاف الكمال، فالعقل هبة من الله عز وجل للخلق، والله متصف بالحكمة وهي أعظم من مجرد وصف العقل وهكذا، فالذين يقولون مثل هذه الأوصاف هم فلاسفة الصوفية ومتصوفة الفلاسفة، الذين تورعوا بزعمهم عن إثبات ما أثبته الله لنفسه، ثم خاضوا في أوصاف الله وأسمائه بما لم يرد به الشرع، بل ينافي أيضاً صفات الكمال حتى عند البشر.