[وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة:100] فرضي عن السابقين الأولين رضاء مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (من كان منكم مُسْتنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بدينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (يا معشر القراء! استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله! لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولأن أخذتُم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيدًا)].
فيما يتعلق بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خير القرون، وأن خير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فقد اختلف السلف في تفسير القرون، هل هي الأجيال، بحيث تشمل المائة السنة الأولى، أم هي مئات السنين، إذ المئون تعد قروناً، والأجيال تعد قروناً؟ الراجح والله أعلم أنه يقصد بذلك المئات، أعني: المائة الأولى والثانية والثالثة، ولذلك شواهد وقرائن كثيرة من التاريخ وحال السلف، وهو الذي يرجحه جمهور السلف، من أن المقصود به الثلاثمائة السنة الأولى.
أيضاً: الخيرية لهذه القرون، بعض الناس من المنافقين ومرضى القلوب والجهلة والذين استجابوا لشبهات الذين بدءوا يتجرءون على نهج السلف، قد بدءوا يشككون في معنى الخيرية، وأن الخيرية لا تعني الخيرية التي نقصدها، أي: المنهج في الدين والعقيدة والتعامل إلى آخر منهج هؤلاء الجيل، وصاروا يفسرون الخيرية بتفسيرات جزئية، منها: أن منهم أخيار، وأن الخيرية المقصود بها أن الأمة في ذلك التاريخ أقرب إلى النبوة، وهذه كلها معان صحيحة، لكن ليست هي كل المعنى، بل الخيرية تشمل جميع هذه المعاني قطعاً، فالخيرية من حيث النوع، أي: نوعية الأخيار في القرون الثلاثة الأولى، لا شك أنهم خير ممن جاء بعدهم، هذا من جانب.
والجانب الآخر أن الفرق لم تستفحل بعد وإن وجدت.
والجانب الثالث: أنه رغم وجود الفرق إلا أن الفرق التي خرجت عن الملة كانت نادرة جداً، إذ لم تخرج فرق الردة إلا بعد القرن الثالث.
والجانب الرابع: أن الأهواء والبدع لم تكن لها شأن في تقرير مصائر الأمة في القرون الثلاثة، بينما بعد القرون الثلاثة الفاضلة صار هناك للبدع دول وشعوب وأقاليم، وكيانات حل وعقد في بعض مصائر الأمة ومصالحها العظمى، ثم أيضاً الخيرية تشمل سلامة المناهج في الجملة، واستقرار الدين من حيث المصادر في الثلاثة القرون الفاضلة، فقد استقر الدين في منهجه العام، واستقر سبيل المؤمنين من حيث تنقية المصادر، فبعد القرون الثلاثة الفاضلة لا توجد -مثلاً- مناهج استطاعت أن تجدد في تدوين السنة ودراسة الأسانيد إلا على قواعد الأولين، واستقرت قواعد حفظ الدين ومناهج الاستدلال كذلك، وهي مهمة، وأهم شيء في نهج الدين تحرير المصادر ومناهج الاستدلال والتطبيق.
فهذه كلها تمت في القرون الثلاثة الفاضلة على الوجه الذي استقر به نهج أهل السنة والجماعة، وما بعده مجرد خدمة فقط، حتى جهود الجهابذة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن جاء بعده من أئمة السنة لا تعدو أن تكون جهوداً في تجديد الكيان وخدمته الذي بناه أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، كيان الدين من حيث إنه منهج المؤمنين في التلقي والاستدلال والمصادر والتطبيق.
وكذلك التجارب والعبر التاريخية التي مرت في القرون الثلاثة الفاضلة طُّبقت فيها جميع ما تحتاجه الأمة من تطبيقات الدين، وعليه فالخيرية في هذه القرون الثلاثة تعني جميع معاني الخيرية، فهي عامة، ولا تعني معنى معيناً، هذا شيء.
والشيء الآخر في كلام ابن مسعود: (فمن كان مستناً فليستن بمن قد مات)، فقد بدأنا نسمع من بعض المفتونين كلاماً غريباً، وهو أنهم يقولون: أنتم الآن تتعلقون بالمشايخ الأحياء -وهذا غلط- فلا تتعلقون إلا بالأموات! ويستدلون بمثل هذا النص، وهذا يدل على الجهل، فنحن حينما نتبع أئمة الهدى فإنا نقسّم الاتباع من حيث اتباع الأئمة إلى قسمين: القسم الأول: الأئمة الذين ماتوا، بمعنى: أننا عرفنا أنهم ماتوا على ما كانوا عليه من الهداية والتوفيق والعلم، فهؤلاء ضمنّا بإذن الله أن الاقتداء بهم والاهتداء ممن لم يملك