قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام].
يقصد بـ (الناس) عموم البشر، المسلمين وغير المسلمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه.
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحريًا للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع.
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة].
الأقسام الأربعة هي كالتالي: الأول: المؤمنون المتقون الذين جمعوا بين الأمرين، ولا يعني ذلك أن الذين بعدهم ليسوا كلهم من المؤمنين، كما لا يفهم أن هذا يشمل كل المسلمين، بل هو خاص بأهل السنة والاستقامة الذين يجمعون بين الأمرين على وجه معتدل، فيعبدون الله ويستعينونه على وجه شرعي، ويمتثلون الأمر ويخضعون للقدر، وعملهم هو الخالص الصواب بإذن الله، ويرجون ذلك.
الثاني: طوائف من المسلمين، أو طائفة من المسلمين تعبد الله عز وجل، لكن ليس عندهم صبر، ولا عندهم كبير استعانة، فاستعانتهم ضعيفة، وهذا ما عليه عامة أصحاب الغفلة من المسلمين، وهو لازم مذهب بعض المعتزلة، إذ من لوازم مذهب بعض المعتزلة في القدر أنهم يرون أن أفعال الإنسان ليست من فعل الله عز وجل، بل هي من فعل الإنسان نفسه، فألزموهم بأن الإنسان خالق أفعاله، لذلك ما كانت عندهم قوة الاستعانة والصبر، مع أنهم قد يكون عندهم ورع ولزوم سنة، وهذا كثير في رءوس المعتزلة، فتجد عندهم ورع، وتجد عندهم اهتمام بالطاعات، وليس هذا عند كلهم، وإلا فمنهم من عرف بعكس ذلك، ولزومهم للسنة هو لزوم ظاهر، بمعنى: أنهم يلتزمون شعائر الإسلام الظاهرة، لكنهم في جانب التوكل والاستعانة عندهم ضعف؛ لأنه من الطبيعي ما دام أنهم يرون أن الإنسان موجد لأفعاله أن يقل توكله على الله، وما دام أن الإنسان يعتقد بأنه هو الذي يوجد أفعاله، فنتيجة تلقائية يضعف توكله على الله، سواء عملوا بها أو لم يعملوا، وهذا كما قلت ليس خاصاً بالمعتزلة، أو بطوائف المعتزلة، بل هو سمة عامة لكل أصحاب التقصير وضعاف الإيمان، وأصحاب الغفلة من المسلمين.
الثالث: فئة من المسلمين فيهم استعانة وتوكل وصبر، لكنهم لا يستقيمون على الشريعة، وهؤلاء غالباً أصحاب الطرق الصوفية، وقد بدأت هذه السمة حتى عند العباد الأوائل، أي: قبل أن تكون طرقاً، فالعباد في أواخر القرن الأول الهجري والثاني والثالث قبل أن تظهر الطرق، العباد الذين سلكوا مسالك التنطع في العبادة، والذين سلكوا مسالك المناهج البدعية في العبادة أياً كان نوعها، عامتهم ليس عندهم استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة، وإنما متابعة للجهل والتقليد، ولأنهم أيضاً سيطرت عليهم الأهواء، فهم لا يطلبون العلم الشرعي ولا يتفقهون في الدين، ويتلقون دينهم عن عباد الأمم وعن الكتب، فلذلك صارت استقامتهم على الأمر الشرعي ضعيفة، وإلا لو استقاموا على الأمر الشرعي ما أنشئوا مذاهب تحريم الزواج، وتحريم طلب العيش، وتحريم طلب العلم، فالذي يفعل ذلك ما استقام على دين الله، وإن كان يجتهد ويقول: إن العلم دُخل، أي: دخله الرياء، والشيطان أسس فيهم المذاهب بشبهات، فتجد العباد الأوائل أصحاب الورع حينما انقطعوا عن الناس، وانقطعوا عن الجمعة والجماعات، وانقطعوا عن العلم الشرعي لاتهامهم نيات الناس، إذ قالوا: كل الذين سلكوا هذه المسالك نيتهم فيها شيء! فنقول لهؤلاء: ما الذي يمنعك أن تجرد نيتك، فتطلب العلم، وتطلب العيش، وتطلب الرزق، وتحضر الجمع والجماعات، وتعاشر العلماء وأهل العلم؟! إذاً: هذه الطائفة هي التي أسست مذاهب الصوفية والطرق، وأغلب أصول الطرق الصوفية تقوم على هذا الأصل، فتجد عند الواحد منهم توكلاً وصبراً على العبادة، وصبراً على السفر، وصبراً على العبادات البدعية وغير البدعية، وأغلب ما يتعب أهل هذا الصنف: التعبدات البدعية التي ابتدعوها من عند أنفسهم، وعلى سبيل المثال: ننظر كيف يكدح المساكين أصحاب البدع في الحج، فيتلفون أموالهم وتضيع أوقاتهم في تتبع البدع، ويضيع أجرهم؛ لأنهم عبدوا الله من غير استقامة، وأذكر أني رأيت ورأى غيري أن أناساً يحملون رجالاً أو نساء مسنين على ظهورهم، ويصعدون بهم غار حراء، والشباب الأقوياء يحتاج الواحد منهم إلى ساعة ونصف لكي يصل إلى الغار، وهذا يحمل فوق ظهره عجوزاً، ويظن أنه يتعبد لله بذلك، وكذلك تتبعهم للمشاهد والآثار بشكل مرهق، في حين أن الله عز وجل أراح الحاج بأن يقر في منى، ويتعبد ويسبح ويهلل ويلبي ويكبر ويستغفر ويصلي مع المسلمين، ويشهد مناسك الحج، ويجلس في المشاعر والشعائر، وهذا المسكين يتعب نفسه في أمور بدعية! وبهذا نعرف أن هذه الطائفة فيها استعانة وتوكل وصبر فيما يتعلق بمسالكهم في العبادة البدعية، لكنهم من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة.
بينما أوائل المعتزلة قد اشتهروا بالورع ولزوم السنة الظاهرة، والشيخ قد جمع بين فئتين: طوائف من المعتزلة، وأهل البدع من العقلانيين الكلاميين، مع أن كل أهل