قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الفناء الثاني: وهو الذي يذكره بعض الصوفية، وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى، فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين.
ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالاً مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك].
سنلاحظ أن النوع الثاني ملتبس مع النوع الثالث، لكن قبل أن نقرأ الثالث أحب أن نقرب النوع الثاني للمصطلحات المشهورة، وهو أن النوع الثاني من الفناء: هو فناء أصحاب الاتحاد والحلول، والنوع الثالث: هو فناء أصحاب وحدة الوجود، فالنوع الثاني ضلال وشرك، وهو أن يعتقد هذا العبد -بزعمه- أنه اتحد مع الله عز وجل، ومع ذلك لكل واحد منهما مسمى، فهذا عبد وهذا معبود، بمعنى: أنه تبقى عنده نسبة من الفارق بين الخالق والمخلوق، لكن هذه النسبة ليست بجانب العبادة، فيرى أنه حل واتحد بالله تعالى، إما اتحاداً كلياً أو جزئياً، فهذه فلسفات لا تنتهي، وبعضهم يرى أنه حلت فيه روح من الله، أو أنه حلت فيه شيء من الأمور المقدسة، مثل: أرواح الملائكة، أو أرواح أخرى، أو العقل الفعال، فلكل منهم مسلك، والحلول قد يكون من باب تقديس المخلوق ليتصف ببعض صفات الخالق أو العكس، لاعتقاد أن صفات الخالق هي التي أيضاً وجدت في المخلوق، وبينهما دور، لكن مع ذلك هي فلسفات.
إذاً: أقول: من أجل أن نفرق بين الثاني والثالث، فالأول واضح، وهو المقصود به العبادة الحقة، لكن سمي فناء تجوزاً، والثاني هو فناء الاتحاد والحلول الذي لا يزال يرى أن وجود الخالق له خصائص، ووجود المخلوق له خصائص، لكن في العبادة اندمج هذا العابد مع المعبود، وأما الثالث الذي سيذكره فهو فناء أصحاب وحدة الوجود، الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق مطلقاً، فيرون عين هذا الكون هو الله عز وجل بجملته ومفرداته.