قال رحمه الله تعالى: [وكذلك النوع الثالث، وهو قولهم: هو واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له، أو لا بعض له لفظ مجمل، فإن الله سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ، أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد].
هذا كله من التخرصات والقول على الله بغير علم، وكله نتيجة لاستجابة مناهج الفلاسفة في طرائق تفكيرهم، ولذلك الذين وقعوا من المتكلمين في هذه المناهج كلهم تأثروا بالفلاسفة، وهم لا يجحدون ذلك، بل يعترفون ويعتزون بذلك، وهذا مما يدل على أن هذه أمور دخيلة أصلاً، فلا يمكن أن ترد في ذهن إنسان خال من المنهج الفلسفي، أو إنسان ليس عنده اتجاه فلسفي، ولم يتأثر بمناهج المتكلمين، لكن تصوراتهم عن الله عز وجل تصورات ذهنية فقط أوقعهم في هذه الأوهام والتخرصات.
وقد سبق أن أشرت إلى ذلك، وأؤكد في هذا المقام لتعرفوا فعلاً أنهم جروا الأمة إلى هذه المعارك الكلامية، بناء على تصور خاطئ عن الله سبحانه، وهو أنهم لا يرون لله وجوداً ذاتياً، وإنما يرون وجود الله وجوداً ذهنياً عقلياً فكرياً فقط، ومن هنا لما سمعوا بأسماء الله وصفاته وأفعاله صعقوا؛ لأن هذا يتنافى مع ما توهموه، فهم قد توهموا أن وجود الله مجرد وجود ذهني أو وجود عقلي أو وجود في التصور والخيال لا في الواقع، بمعنى: أنه ليس لله وجود ذاتي منفرد منفصل عن المخلوقات؛ ولذا اعتبروا من التوحيد أن الله واحد لا قسيم له، مفروض يصير هذا بديهي أصلاً، وجاءت كلمة (قسيم) لأنهم حينما اعتقدوا أن وجود الله ذهني، ثم سمعوا بالنصوص التي تؤكد أن لله وجوداً ذاتياً، وأن هذا الوجود لابد أن يكون متصفاً بصفات، اعتقدوا أن الصفات الذاتية تعني التبعيض والتجزئة، أي: أن لله أبعاضاً وأجزاء، وبالتالي سحبوا الأمر حتى على العلو والاستواء، وقالوا: هذا حركة، والحركة لا تكون إلا لشيء يتجزأ أو يتبعض أو ينتقل، والله عز وجل منزه عن الانتقال، فنفوا العلو لله عز وجل؛ لأن إثبات العلو يثبت الذات، وإثبات الذات يعني إثبات الأسماء والصفات، وهم أصلاً ينفرون من هذا، وإلا لو اعتقدوا لله وجوداً حقيقياً للزمهم عقلاً وفطرة بأنه لابد أن يتصف بصفات، لكن حينما لم يعتقدوا لله وجوداً ذاتياً صاروا ينفرون من أي شيء يثبت لله الوجود الذاتي، ومن هنا فسروا التوحيد بالتفسيرات التي تنفي أي شيء يدل على الوجود الذاتي الحقيقي، فيقولون: إن الله موجود، لكن وجود ذهني تصوري فقط، لا حقيقي واقع، ولذلك نتجت عنهم عقائد الحلول، وعقائد الاتحاد، وعقائد وحدة الوجود، وعقائد الاقتصار على المعرفة في الدين، كما نتج عنهم التعطيل والتأويل إلى آخر ما نتج عن ذلك الاعتقاد الخاطئ.
قال رحمه الله تعالى: [فقد تبين أن ما يسمونه (توحيداً) فيه ما هو حق, وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقاً].
وجه الحق: هو أنهم حينما عبروا عن الله عز وجل بأنه لا يتبعض ولا يتجزأ، وهذا حق، لكن ليست صفاته وأسماؤه الثابتة في الكتاب والسنة تتبعض وتتجزأ، فهم أصابوا في الأول وأخطئوا في الثاني، لكن خلطوا بين هذا وذاك، وهذا ناتج -كما قلت- عن تصوراتهم الخاطئة في حق الله عز وجل، فلم يقدروا الله حق قدره.
قال رحمه الله تعالى: [فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن، وقاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
كل أنواع التوحيد التي قال بها المتكلمون يقر بها المشركون، فهم لا ينكرون أن الله واحد في ذاته وفي أفعاله، وإن كانوا يناقضونها، لكن الإقرار المبدئي الفطري العقلي يقرون به، وتجد هذا في أشعارهم وفي خطبهم، بل يرتبون أمورهم فيما بينهم بهذه الأمور، فينسقون عهودهم وأحوالهم فيما بينهم بالإقرار بتوحيد الربوبية، لكن القضية هي توحيد العبادة، إذ إنهم لا يعبدون الله عز وجل، مع أن هذه هي قضية الأنبياء مع مخالفيهم، أما هذه الأمور التي يدندن حولها أهل الكلام، وتبعوا فيها الفلاسفة، وبذلوا فيها مهجهم وأوقاتهم وقصارى جهودهم، فإن القضية مفروغ منها أصلاً، ولا تحتاج إلى تقرير، فهم يكدون في خيالات وأوهام وتخرصات.