قال رحمه الله تعالى: [ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.
وهذا كما أن لفظ (إنا) و (نحن) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له، فإذا تمسك النصراني بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات، وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم].
هذا منهج ضروري في الاستدلال، إذ إن كل الفرق التي ضلت عن منهج السلف إلى الافتراق، سواء فرق الغلو أو فرق التقصير، كلها تخل بهذا المنهج، أعني: منهج أخذ تفسير النصوص بعضها ببعض، سواء في الغيبيات: أسماء الله وصفاته، أمور القدر، أمور الآخرة، أمور الوعد والوعيد، أو فيما يتعلق بالأحكام، مع أن أصول العقيدة كلها، العلمية والعملية لا تستقيم ولا يستقيم الاعتقاد فيها حتى يؤخذ بشمولية النصوص، وأن تفسر النصوص بعضها ببعض، ويرد بعضها إلى بعض، وهذا المنهج النصراني الذي زعم أن دليله على التثليث: أن الله عز وجل عبر عن نفسه بـ (نحن)، أي: أنه يدل على جماعة، وعليه فهم ثلاثة! فيرد عليه: بأن الله عز وجل عبر عن نفسه بلفظ المفرد، وعليه فيرد هذا بهذا، وهذه قاعدة عظيمة يحتاجها طلاب العلم اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ لأن الخلط فيها الآن أصبح من أكبر أسباب جهل عقيدة السلف، والتنكر لها من ناحية، ومن أكبر أسباب انجذاب كثير من شبابنا اليوم إلى مسالك الافتراق والهوى القديمة والحديثة، فتجده يستدل بنص بين فيما يظهر له، كآية أو حديث على عقيدة أو موقف أو مبدأ أو اتجاه، لكن يجهل أو يتجاهل ما يفسر هذا النص أو يقيده أو يبينه، فيتجاهل تفسيرات السلف الشمولية لهذه النصوص، ولذلك كثيراً ما أقرر فأقول: يجب أن نفرق بين صورتين على سبيل المثال: بين إنسان طالب علم إلى الآن ما استوعب إلا القليل، أو ما عرف إلا القليل من النصوص، وبين إمام راسخ كالإمام أحمد الذي قيل عنه: إنه يحفظ ألف ألف سند، أي: مليوناً، ففرق بين هذا وذاك، وفرق بين من يحفظ مليون سند وبين من صح عنده ما يزيد على ثلاثين ألفاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين هذا الذي صح عنده ما يزيد على ثلاثين ألف حديث وبين إنسان حافظ لبعض الصحاح أو بعض الأسانيد.
ومن هنا ندرك أهمية وفضل الرسوخ في العلم على نهج السلف، وإلا قد يكون هناك إنسان راسخ في العلم لكنه صاحب هوى يعميه عن الأخذ بمنهج الاستدلال، وقد يوجد من المنتسبين للفرق من عنده عمق ورسوخ في بعض العلوم الشرعية، لكنه ابتلي بالمنهج المنحرف في الاستدلال، فلا ينفعه علمه، بل يضره، نسأل الله العافية.