قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه].
يشير الشيخ بهذا الكلام إلى فلسفة المتفلسفة، وإلى خيالات أهل الكلام الذين تكلموا في هذه الأمور، فالفلاسفة وضعوا تصورات للغيب، وزعموا أنها حقائق، وهي في الحقيقة ما هي إلا خيال، وهذا ما قصده الشيخ بكلمة: (الخارج)، أي: خارج الوجود، بل ليس مما يعقل وجوده أصلاً، وإنما هو مجرد تعابير خيالية تقوم على التخرص وعلى التوهم في الأذهان؛ لأنها صدرت عن أذهان المكلفين، أذهان هؤلاء الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، هؤلاء الذين ظنوا أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فلزم من ذلك أن يكون هذا الاشتراك حتى في الأمور الخيالية، وأن هناك موجوداً مشتركاً يفترض وجوده، يسمونه: الوجود المطلق، أو مطلق الوجود.
ولذلك هذا الصنف ومن تبعهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً أو ذاتياً؛ لأنهم وصفوه بالوجود المطلق، أو بمطلق الوجود على اختلاف بين العبارتين، فالوجود المطلق هو الذي لا يوجد إلا في الخيال، وعند التحقيق لا يكون له وجود، وهذا سبب رئيسي في وجوب إنكار الأسماء والصفات عند الجهمية، وسبب رئيسي في إنكار الصفات عند المعتزلة، وسبب أساسي في إنكار متكلمي الأشاعرة والماتريدية لصفات الله، ما عدا سبع أو عشرين على اختلاف بينهم.
فالذين أنكروا بقية الصفات ما عدا السبع أو العشرين، أو الذين أنكروا الصفات كلها، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات يشتركون في وهم، لكنه يتسع عند بعضهم ويضيق عند آخرين، هذا الوهم هو أنهم يعتقدون أن الله عز وجل ليس له وجود ذاتي، ولذلك تجدهم ينفرون من إثبات الاستواء ومن إثبات العلو ومن إثبات الصفات الفعلية من النزول والمجيء؛ لأن من يعتقد أن وجود الله في الأذهان فقط من الطبيعي أن ينفر من الصفات التي تدل على وجود حقيقي لله، وهذا هو مصدر الأدلة التي حرفت بهؤلاء عن منهج السلف، فاشتركوا في هذا الوهم، لكن منهم مقل، مثل: الجهمية وغلاة الفلاسفة والمتكلمين، ومنهم مكثر، مثل: المعتزلة، ومنهم من وسع الهوة حتى اعتقد أنه لا وجود لله إلا هذا الوجود المطلق، أو مطلق الوجود.
كذلك الذين قالوا: بالوجود المطلق أو مطلق الوجود انقسموا إلى قسمين: المعطلة الذين جعلوا وجود الله معنوياً، أو الذين نفوا وجود الله الذاتي واعتقدوا أنه هو هذا الوجود، ثم انقسم هذا القسم الأخير إلى ثلاثة أقسام: منهم من رأى الحلول، ومنهم من رأى الاتحاد، ومنهم من رأى وحدة الوجود.
فهذه مذاهب خبيثة دخلت على المسلمين من الأمم، وذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، وبعض الناس قد يستغرب، فلا يستغرب؛ لأن كل من خرج عن نهج السلف في إثبات أصول الدين، أو في التزام الوحي، أو في التعبير عن الدين بالألفاظ الشرعية وقع في هذه المسالك أو في غيرها من مسالك الضلالة، نسأل الله العافية.