قال رحمه الله تعالى: [فأسماء الله تعالى وصفاته أولى -وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- ألا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته.
والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وإن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلم في الشاهد].
هذه أيضاً حقيقة صحيحة وبدهية وفطرية وعقلية، وهو أنه من الممكن أن يعترض معترض من هؤلاء المتكلمين فيقول: لماذا عبّر الله عز وجل عن أمور الغيب بهذا التعبير، مع أنه ليس المقصود بها المعاني التي نتوهمها، وليست كيفياتها ككيفياتنا في الدنيا؟ نقول: لأنه لا سبيل إلى إفهام العباد إلا بمثل هذه الألفاظ المشتركة، كما أنه لا سبيل إلى إثبات الحق في قلوب العباد إلا من خلال الألفاظ المشتركة، لكن الكيفية تختلف، أما الحقيقة فهي واحدة، فهذا لبن حقيقي، فيما يتعلق بلبن الجنة ولبن الدنيا، لكن الكيفية تختلف، فذاك أرقى وأعظم وألذ وأجود.
وأما تساؤلهم بأنه لو كان المراد كذا لعبّر لنا بغير هذا التعبير، فنقول: غير صحيح، فالله عز وجل عبّر لنا عن الحقائق بهذا التعبير الذي فيه مشابهة لألفاظ الدنيا، وما ذاك إلا لتقريب الحقائق، فهي أمثال تُضرب، ولا يمكن إيصال الحقائق الغيبية إلى العقلاء إلا بهذا الأسلوب، وهو أن يُخاطبوا بالحقائق العامة، أما الكيفيات فلا شك أنها تختلف.
قال رحمه الله تعالى: [وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنحن إذاً أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك، وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله].
المقصود هنا الكيفية؛ لأن الحقيقة نوعان: الأولى: الحقيقة بالمعنى المثبت للفظ، أي: يُثبت للفظ معنى؛ لأن الله عز وجل ما خاطبنا إلا بحق له معان وبألفاظ لها معان، فالمعنى هذا نثبته.
الثانية: الحقيقة بمعنى: الكيفية، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون في مدارك العباد؛ لأنه لو كان في مدارك العباد ما صار غيباً، ولذلك امتدح الله المؤمنين بإيمانهم بالغيب؛ لأنهم سلّموا وأقروا بالحق وبالحقيقة، وأقروا بمعاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب، فأقروا بأن لها معاني وحقائق، وسلّموا بها تسليماً، لكن دون أن يفهموا الكيفيات، ولذلك أُجروا على هذا الإيمان؛ لأنه لو كان مما يشاهدونه ويحسّونه ما صار لهم فضل، وما صار لهم أجر، لكن فضلوا وفضّلهم الله عز وجل حينما أيقنوا بهذه الغيبيات، أما الكيفيات فلا سبيل إليها.