الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسيقرر الشيخ هنا قاعدة هي من أوضح القواعد، وأكثرها إلزاماً للمتكلمين المؤولة؛ لأنها تنظّر لهم على قواعدهم، وهو رحمه الله قد نظّر لهم على قواعدهم، وهذه القاعدة هي القاعدة الخامسة، وهي: أن الله عز وجل أخبرنا بأمور غيبية، وخبره صدق وحق لا شك فيه، وهي على حقائقها، لكن لا نعلم كيفيتها، فهي حقائق معلومة من حيث الإجمال، بما في ذلك أسماء الله وصفاته وأفعاله، فنعلم خطاب الله فيها، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم حقيقة ذلك من وجه، ولا نعلم من وجه آخر، فالوجه الذي نعلمه في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الغيب أنها حق، وأنها علم وليس بظن، وأنه لا يمكن أن تنالها العقول ولا الخواطر؛ لأنا لو كنا نعلمها من حيث الكيفية لما صارت غيباً، والله عز وجل ليس كمثله شيء، فيستحيل أن يعلم أحد من العباد كيفيات صفات الله عز وجل، وعلى هذا فإن الخلط بين هذين الوجهين هو الذي أوقع أهل الكلام في الاضطرار للتأويل والتعطيل، وهذه من ناحية، والناحية الأخرى أنهم حينما وقعوا في التأويل ظنوا أن التأويل سائغ، وقالوا: إن السلف كانوا يؤولون، فالشيخ قطع عليهم حجتهم هذه؛ لأنها أدخلتهم في الباطل واللبس، فقال: نعم كان السلف يقولون بالتأويل، لكن ليس التأويل الذي تقصدونه أنتم، فالتأويل على ثلاثة أنواع: الأول: بمعنى: صرف معاني الألفاظ من المفهوم للمخاطبين إلى معاني وتفسيرات أخرى بقرائن أو بغير قرائن، وهو في هذه الصورة جائز في عالم الشهادة؛ لأننا نملك وسائل الحس فنستخدمها في تأويل المعاني التي نسمعها، لكن في أمور الغيب هذا النوع من التأويل لا يمكن أن يرد إطلاقاً، فلا يمكن أن نقول: إن أي خبر أخبر الله به في ذاته وأسمائه وصفاته، أو أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم -مثل: أحوال القيامة- أنه يؤول، لأنا إذا أولناه فقد انتقلنا من الحقيقة المفهومة إلى لا شيء، والدليل على هذا أنهم حينما أولوا ما اتفقوا، فكل واحد انصرف بالتأويل إلى معنى غير ما انصرف له الآخر، وهذا أمر.
الأمر الآخر: أن الأمر لو كان يحتاج إلى تأويل لبيّنه الله بالتأويل، فلماذا نحتاج إلى أن نخرج من الحقيقة اليقينية إلى التأويل المحتمل، لاسيما وأن التأويل في أمور الغيب احتمال وليس يقيناً؟ فلا يمكن أن يخاطبنا الله ويخاطبنا رسوله صلى الله عليه وسلم بمعانٍ محتملة، وهذا النوع من التأويل -كما قلنا- لا يجوز في الغيبيات؛ لأننا لا نملك القرينة إلا في عالم الشهادة، مثل قوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، أي: اسأل الركب الذين كانوا مع إخوة يوسف؛ لأنه معلوم في حياتنا المشاهدة أن القرية لا تتحدث، وإنما الذين يتحدثون إنما هم أهلها، فعلمنا ذلك بقرينة مشهودة، لكن هل يمكن أن نستخدم هذه القرينة في أخبار القيامة مثلاً؟ لا يمكن؛ لأن حقائق الغيب كيفياتها غائبة، فلا يمكن صرف معانيها المتبادرة للأذهان، والحقائق اللائقة بها، إلى معان أخرى بمجرد أوهام، ولاسيما أنهم قد اختلفوا في القرائن واختلفوا في التأويلات.
الثاني: بمعنى: التفسير، وهذا لا خلاف فيه، فأي كلمة في اللغة تفسيرها هو تأويلها، وأي معنى من معاني ألفاظ الشرع تأويله هو تفسيره، إذا لم تتعلق بأمور الغيب.
إذاً: التأويل بمعنى: تفسير الأمور، أي: بشرح مفرداتها وببيان معانيها على مقتضى القواعد المعتبرة في التفسير، وهذا النوع ليس فيه خلاف، وليس هو المقصود في التأويل.
الثالث: بمعنى: وقوع الشيء كما أخبر الله به، كقوله عز وجل عن يوم القيامة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53]، وقول يوسف عليه السلام لأبويه عندما تحققت رؤياه بعد أربعين سنة: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، أي: تفسيرها ووقوعها، وهذا لا شأن للخلق فيه، وإنما يتعلق بتقدير الله لأمور الغيب.
إذاً: تأويل الشيء: هو وقوعه على ما أخبر الله به، أو إيقاعه على ما أمر الله به إذا كان أمراً شرعياً، وهذا النوع من التأويل لا نزاع فيه عند أهل الكلام، ولذلك لا نقف عنده كثيراً، وكذلك النوع الثاني لا ينازعون فيه، وإنما ينازعون في النوع الأول، ولذلك قال شيخ الإسلام: إن النوع الثاني والثالث نفسِّر به جميع النصوص، أما النوع الأول فلا يجوز أن نفسّر به أمور الغيب؛ لأن التأويل بمعنى صرف اللفظ من معناه إلى معنى آخر بقرينة يقينية، وليس عندنا قرائن يقينية، فنتحول به من الحقيقة إلى الظنون، والعقيدة ليس فيها ظنون، والله أعلم.