قال رحمه الله: [وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه].
قوله: (وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه) أي: إذا أطلق الجسم الجوهر العرض الجهة المباينة المفاصلة خارج العالم داخل العالم، وغيرها من هذه الوساوس والأوهام هذه إذا اشتملت على حق وباطل فإننا لا نقبله كله ولا نرده كله، فإذا جاءنا مبطل ونفى الجهة، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل، فنقول له: ماذا تقصد بالجهة إن قصدت بالجهة: أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، فوق سماواته، فهذا حق، لكن لا نسميه جهة، فأنت الذي سميته جهة! وإن قصدت بالجهة: أن الله سبحانه نحيط به جهة، فهذا غير معقول أصلاً، ولم يقل به أحد من أهل الحق ممن ينتسبون للإسلام والسنة والجماعة حتى تأتي لتتشدق به عندنا.
وعلى أي حال فالمقصود هنا: أن أي لفظ لم يرد في الكتاب والسنة فلا نرده مطلقاً ولا نقبله مطلقاً، بل نفصل.
قال رحمه الله تعالى: [بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك.
فلفظ: (الجهة) قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم].
هذا التفصيل فيه نعم ولا؛ إن أريد به شيء موجود غير الله من المخلوقات فهذا ينفى عن الله؛ لأن الله عز وجل غير حال في المخلوقات، وإن أريد بالجهة أيضاً العرش أو السموات وقيل: إن الله ليس بجهة، أي: ليس فوق عرشه، وليس فوق سمواته، فهذا يرد، وإن أريد بالجهة نفس العرش على أنه جهة أيضاً، فهذا لا يقبل، على أنه يسمى العرش جهة، لكنه مخلوق.
ولا شك أننا حينما نقول إنه فوق عرشه، يعني: أنه فوق المخلوقات؛ لأن العرش فوق جميع المخلوقات، والكرسي محيط بجميع المخلوقات.
فإذاً: كلمة: (جهة) إن أريد بها إثبات العلو والفوقية فنثبت العلو والفوقية، لكن نلغي كلمة جهة؛ لأنها محدثة، فنسمي الوصف العلو والفوقية، وإن أريد بالجهة مكاناً يحوي الله عز وجل، فهذا باطل ومنفي في حق الله عز وجل.
قال رحمه الله: [ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ: (الجهة) ولا نفيه، كما فيه إثبات (العلو) و (الاستواء) و (الفوقية) و (العروج إليه) ونحو ذلك.
وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فان أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل].
أي: أننا لا نثبت لله شيئاً اسمه: الجهة، ولا ننفي عن الله شيئاً اسمه: الجهة؛ لأن هذا كله لم يرد في الكتاب والسنة، مع أن كلمة: (جهة) لها معان عدة، والمعنى الحق نثبته ونرده إلى اللفظ الشرعي، والمعنى الباطل نرده مطلقاً، ومثل ذلك: كلمة (متحيز) و (مباين) وغير ذلك من الألفاظ المحدثة التي لا تثبت لله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك لفظ: (التحيز)، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟).
وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)، وفي حديث ابن عباس: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).
وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، منفصل عنها، ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه].
تلاحظون بحمد الله وضوح السنة، والشيخ رحمه الله يقرر ثم يستدل بأدلة صحيحة، لذا يجب علينا تجاه هذه النصوص أن نستصحب الأصل دائماً، ولا ننسى أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، بمعنى: إذا جاءت مثل هذه النصوص فإننا نثبتها على ما يليق بجلال الله عز وجل، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه)، هذا حق، لكن يجب أن ننفي المشابهة التي ترد في أذهاننا، وأقول هذا لأني أدرك أن بعض الناس إذا وردت عليه آيات الصفات تخيل في ذهنه