وفي علوم الحديث من ألفاظ الجرح عندهم الكذب والتهمة بالكذب، فالكذب المراد به الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والتهمة بالكذب كون الراوي جُرب عليه الكذب، لكن لا على النبي -عليه الصلاة والسلام- بل في حديثه مع الناس، هذا يقال له: متهم بالكذب؛ لأن المراد بالكذب الذي هو شر أنواع الجرح وأسوأ مراتب التجريح، المراد به على النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي جاء الوعيد عليه، ودونه التهمة بالكذب، بأن يثبت بأن هذا الراوي يتعاطى الكذب في كلامه العادي مع الناس، لكن لم يثبت عنه أنه كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وحينئذٍ يكون متهماً بالكذب.
قال هرقل: "فهل يغدر؟ " بكسر الدال أي ينقص العهد، قال أبو سفيان: "قلت: لا، ونحن منه -أي النبي -عليه الصلاة والسلام- في مدة" أي مدة صلح الحديبية، أو غيبةٍ وانقطاع، فلا ندري ما هو فاعل فيها، أي في المدة، وفي قوله: "لا ندري" إشارة إلى عدم الجزم بغدره، هذه الكلمة لم يمكن أبو سفيان أن يدخل من أجل الطعن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- إلا في هذه أو من خلال هذه الكلمة، يقول: "لا ندري ما هو فاعل فيها" ولذا لم يلتفت إليها هرقل، قال أبو سفيان: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً أنتقصه به غير هذه الكلمة"، قال في الفتح: "التنقيص هنا أمر نسبي؛ لأن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبةً ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة كأن في كلام أبي سفيان تجويز الغدر منه -عليه الصلاة والسلام-، هو لم يقع منه، ولم يثبته أبو سفيان جازماً، وإنما جوز أن يغدر في هذه المدة التي لا يدرى ما هو صانع فيها.
وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- معروفاً عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولكن لما كان الأمر مغيباً لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، يعني لو نسب إلى الكذب قال: هذا مجرد توقع، فلذلك أورده على التردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه.