الأُمِّ ". ثُمَّ صنَّفَ في ذلكَ أبو محمدِ بنُ قتيبةَ فأَتى بأشياءَ حسنةٍ، وقَصُرَ باعُهُ في أشياءَ قَصَّرَ فيها. وصنَّفَ في ذلكَ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ، وأبو جَعْفَرٍ الطحاويُّ كتابَهُ " مُشْكِلُ الآثارِ "، وهو من أَجلِّ كُتُبِهِ وكانَ الإمامُ أبو بكرِ بنُ خُزيمةَ مِنْ أَحسنِ الناسِ كلاماً في ذلكَ، حتى إنَّهُ قالَ: لا أعرفُ حديثينِ صحيحينِ متضادَّينِ، فَمَنْ كانَ عندَهُ فليأتني بهِ لأُؤَلِّفَ بينهُمَا.
وجملةُ الكلامِ في ذلك: إنَّا إذا وجدْنَا حديثينِ مختلفي الظاهرِ، فلا يخلو إمّا أنْ يُمْكنَ الجمعُ بينهما بوجهٍ يَنْفي الاختلافَ بينهما، أوْ لا؟ فإنْ أمْكَنَ ذلكَ بوجهٍ صحيحٍ، تَعَيَّنَ الجمعُ، ولا يُصَارُ إلى التعارُضِ، أوِ النَّسْخِ، معَ إمكانِ الجمعِ، مثالُهُ قولُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ الصحيحِ لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ وقولُهُ فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فرارَكَ من الأسدِ معَ قولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ الصحيحِ أيضاً لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، فقد جعلَهَا بعضُهم متعارضةً، وأدخلَهَا بعضُهم في الناسخِ والمنسوخِ، كأبي حفصِ بنِ شاهينَ والصوابُ الجمعُ بَيْنَهُما، ووجهُهُ أَنَّ قولَه لا عَدْوَى نفيٌ لما كانَ يعتقدُهُ أهلُ الجاهليةِ، وبعضُ الحكماءِ، مِن أنَّ هذهِ الأمراضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا، ولهذا قالَ: ((فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ)) ، أي: إنَّ اللهَ هوَ الخالقُ لذلكَ بسببٍ وغيرِ سببٍ، وإنَّ قولَه ((لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ)) ، ((وفِرَّ منَ الْمَجْذُومِ)) ، بيانٌ لما يخلقُهُ اللهُ منَ الأسبابِ عندَ المخالطَةِ للمريضِ، وقدْ يتخلَّفُ ذلكَ عن سببِهِ، وهذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ. كما أَنَّ النارَ لا تُحْرِقُ بطَبْعِهَا، ولا الطعامُ يُشْبِعُ بطبعِهِ، ولا الماءُ يُرْوِي بطبعِهِ، وإنَّما