وقولي: (ثُمَّ حيثُ احْتِيْجَ لَكَ في شَيءٍ اروهِ) ، بيانٌ للوقتِ الذي يحسنُ فيهِ التَّصَدِّي للإسماعِ، والتَّحْدِيْثِ. فإنْ كانَ قد احْتِيْجَ إلى ما عندَهُ، فقدِ اختلفَ فيه كلامُ الخطيبِ، وابنِ الصلاحِ في الوجوبِ والاستحبابِ، فلهذا أتيتُ فيهِ بصيغةِ الأمرِ الصالحةِ لهما في قولي: (اروهِ) . قالَ الخطيبُ في كتابِ " الجامع ": فإن احتيجَ إليهِ في روايةِ الحديثِ قبل أنْ يعلوا سنُّهُ فيجبُ عليهِ أَنْ يُحدِّثَ، ولا يمتنعَ؛ لأنَّ نشرَ العلمِ عندَ الحاجةِ إليهِ لازمٌ، والممتنعُ مِن ذلكَ عاصٍ آثمٌ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: والذي نقولُهُ أنهُ متى احتيجَ إِلَى ما عندَهُ استحبَّ لَهُ التَّصَدِّي لروايتهِ، ونشرِهِ في أيِّ سنٍّ كانَ. وروينا عن أبي محمدَ بنِ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتابهِ " المحدِّث الفاصل "، قالَ: الَّذِي يصحُّ عندي من طريقِ الأَثرِ والنَّظَرِ في الحدِّ الَّذِي إذا بَلَغَهُ الناقلُ حَسُنَ بهِ أنْ يُحدِّثَ؛ هو أنْ يستوفيَ الخمسيْنَ؛ لأنَّها انتهاءُ الكهولةِ، وفيها مجتمعُ الأَشُدِّ. قالَ: ((وليسَ بمستَنْكَرٍ أنْ يُحَدِّثَ عندَ استيفاءِ الأربعينَ؛ لأَنَّهَا حَدُّ الاستواءِ، ومنتهى الكمَالِ، نُبِّيءَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو ابنُ أربعينَ، وفي الأربعينَ تتناهى عزيمةُ الإنسانِ وقَّوتُهُ ويتوفرُ عقلُهُ ويجودُ رأيُهُ)) . وتعقَّبَهُ القاضي عياضٌ في كتابِ " الإلماع "، فقالَ: واستحسانُهُ هذا لا تقومُ لهُ حُجَّةٌ بما قالَ، وكمْ مِنَ السلفِ المتقدِّمِيْنَ، ومَنْ بعدَهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِيْنَ مَنْ لم ينتِهِ إلى هذا السنِّ، ولا استوفى هذا العمرَ، وماتَ قبلَهُ، وقد نَشَرَ مِنَ العلمِ، والحديثِ ما لا يُحصَى. هذا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ تُوُفِّيَ ولم يُكْمِلِ الأربعينَ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ لم يبلغِ الخَمْسِيْنَ.