أعرضَ الناسُ في هذهِ الأعصارِ المتأخّرةِ، عن اعتبارِ مجموعِ هذهِ الشروطِ لعُسْرِها، وتعذُّرِ الوَفاءِ بها، فيُكْتَفَى في أهليةِ الشيخِ بكونِهِ مُسلِماً بالغاً عاقلاً، غيرَ متظاهرٍ بالفِسْقِ، وما يخرمُ المروءةَ، على ما تقدَّمَ. ويُكتَفَى في اشتراطِ ضَبْطِ الراوي بوجودِ سَماعِهِ متثبتاً بخطِّ ثقةٍ غيرِ مُتَّهَمٍ، وبروايتِهِ مِنْ أصلٍ موافقٍ لأصلِ شيخِهِ. وقد سبقَ إلى نحوِ ذلكَ البيهقيُّ لمّا ذكرَ تَوَسُّعَ منْ تَوَسَّعَ في السماعِ مِنْ بعضِ محدِّثِي زمانِهِ الذينَ لا يَحْفَظُونَ حديثَهُم، ولا يُحْسِنُونَ قراءَتَهُ مِنْ كُتُبِهم، ولا يعرفُونَ ما يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أنْ تكونَ القراءةُ عليهم مِنْ أصْلِ سماعِهِم، وذلكَ لتدوينِ الأحاديثِ في الجوامعِ التي جمعَها أئمّةُ الحديثِ. قالَ فَمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يُوجَدُ عندَ جميعِهم، لم يُقْبَلْ منه. ومَنْ جَاءَ بحديثٍ معروفٍ عندَهُم، فالذي يرويهِ لا ينفردُ بروايتِهِ، والحجّةُ قائمةٌ بحديثِهِ، بروايةِ غيرِهِ. والقَصْدُ من روايتِه والسماعِ منه، أنْ يصيرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ: حَدَّثَنا، وأخبرنا. وتبقى هذهِ الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمةُ شَرَفاً لِنبيِّنا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلكَ قالَ السِّلَفِيُّ في جزءٍ لهُ جمَعَهُ في "شرطِ القراءةِ": إنَّ الشيوخَ الذينَ لا يَعرفُونَ حديثَهم الاعتمادُ في روايتِهم على الثِّقةِ المقيّدِعنهم لا عليهم. وإنَّ هذا كُلَّهُ توسُّلٌ من الحفّاظِ إلىحفظِ الأسانيدِ، إذ ليسوا من شرطِ الصحيحِ، إلاّ على وجهِ المتابعةِ، ولولا رُخصةُ العلماءِ؛ لما جازتِ الكتابةُ عنهم، ولا الروايةُ إلاّ عن قومٍ منهم دونَ آخرينَ. انتهى. وهذا هو الذي استقرَّ عليه العملُ. قالَ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ "الميزان": العمدةُ في زمانِنا ليسَ على الرواةِ، بل على المحدِّثينَ، والمقيِّدينَ، الذين عُرِفَتْ عدالتُهم وصدقُهم في ضَبْطِ أسماءِ السَّامِعِيْنَ. قال: ثُمَّ مِنَ المَعلُومِ أنَّهُ لابُدَّ من صَوْنِ الراوي وسَتْرِهِ.