القلب ينقسم إلى نوعين: قلب في الإسناد، وقلب في المتن، والمصنف لم يتحدث عن قلب المتن، وإنما تحدث عن قلب الإسناد، وقلب الإسناد ينقسم إلى قسمين: فالأول مثل قولك: حدثني يوسف عن يعقوب، فقلت: حدثني يعقوب عن يوسف، فقلبت السند، حيث أنك ما سمعت من يعقوب، وإنما سمعت من يوسف، فهذا يسمى قلباً في الإسناد.
والثاني: القلب في السند لمتن آخر، وهذا وقع في بغداد مع الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري المتوفى سنة 256هـ رحمه الله طبيب، الحديث في علله وأستاذ الحديث كما قال الإمام مسلم.
فقد كانت بغداد قبلة العلماء -حدث ولا حرج واقرأ تاريخ بغداد- الجهابذة الأعلام: ابن حنبل، الطبري، الترمذي، ابن ماجة، أبو داود، ابن أبي الدنيا، الخرائطي، الحافظ البغدادي، وكانوا يعتبرون من لم ينزل بغداد أنه لم يزل بعد في مرحلة طلب العلم؛ لأن بغداد كانت قلعة العلماء في العصر العباسي الأول، والعصر العباسي الأول كان عصر ازدهار، وقد وقع في زمن المعتصم والمأمون المصيبة الكبرى، وهي أنهم استجلبوا لنا من اليونان كتب الفلسفة وترجموها، والآن يدرسون عندنا الفلسفة والمنطق أرسطو وأفلاطون، ولما علم ملك اليونان بالأمر قال: ما دخلت هذه العلوم في بلد إلا أفسدتها فأعطوها لهم، ولو قرأت في تاريخ الدولة العباسية لوجدت العجب العجاب من مظاهر الترف والإنفاق، فربما يقول شاعر بيت شعر واحد، ويعجب به ولي الأمر أو الخليفة فيأمر بإنفاق مليون ريالاً من بيت مال المسلمين للشاعر! والشاهد يا إخواني! أن البخاري نزل بغداد في رحلة لطلب العلم، ومن لم تكن له رحلة لن تكون إليه رحلة، أي: من لم يرحل لن يرحل إليه؛ ولذلك ضبط البخاري في كتاب العلم: باب الخروج إلى طلب العلم، أي: الهجرة والمهاجرة، لكن نحن من شبابنا من يذهب إلى النمسا وإلى ألمانيا ليس لطلب العلم، وإنما ليبيع الخمور وليخالط النساء ويفعل الزنا، فإن قلنا له: ارحل في طلب العلم من مدينة نصر إلى حدائق الزيتون لقال لك: يا الله! جهد علي كبير، سأركب (المترو) وأنزل محطة، أحضروا لنا الشيخ إلى هنا! وكما قال الدكتور مصطفى حلمي -حفظه الله- من أستاذة العقيدة في دار العلوم: حتى في المعاصي كسالى.
قلت: كيف؟ قال: حينما يغني فريد الأطرش يقول: هاتوا لي حبيبي، وهكذا في عالم المعاصي يريدون المعصية أن تأتي إليهم، وهذا طبعاً يدل على الخمول والكسل.
أعود فأقول: لما دخل البخاري بغداد أراد أهل بغداد أن يختبروه في حفظه في مجلس علم كهذا المجلس؛ فدفعوا إليه عشرة من الحفاظ، وأعطوهم عشرة أحاديث مقلوبة الأسانيد، فقام السائل الأول يسأل البخاري: ما تقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا مكي بن إبراهيم عن الليث عن يعقوب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)؟ فالحديث صحيح لكن السند غير صحيح، فقال البخاري: لا أعرفه، فالجهلاء قالوا: سقط في الامتحان، والعلماء قالوا: أدرك اللعبة؛ لأنه قال: لا أعرفه.
ثم قام الثاني فألقى حديثه والبخاري يقول: لا أعرفه، وقال للثالث: لا أعرفه، وللرابع: لا أعرفه، حتى سمع العشرة، ولما انتهوا قال: أين السائل الأول؟ قال: أنا، قال: أنت قلت كذا، وسند الحديث كذا، ثم قال: للثاني مثل ما قال للأول وهكذا، يقول العلماء: ليس العجب أنه صحح السند، وإنما العجب أنه أعاد الأحاديث بنفس الترتيب.
وصدق الله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
قول الناظم: (والمقلوب قسمان تلا)، أي: أن المقلوب نوعان.
وقوله: (إبدال راوٍ ما براو قسم)، أي: بدلاً من يوسف عن يعقوب نقول: يعقوب عن يوسف، وهذا بدل.
والناظم رحمه الله تحدث عن القلب في السند، ولم يتحدث عن القلب في المتن، والقلب في المتن مثل حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، وفي رواية عند مسلم: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)، فنقول: هذا فيه قلب؛ لأن اليمين هي التي تنفق، أما الشمال فلا تنفق، وبالتالي نقول: هذه الرواية ضعيفة، والقلب من أنواع الضعف؛ لأنه يدل على عدم الضبط.