بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى في هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم} [البقرة:40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرائيل} [البقرة:122] الآية، ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم] .
هذا هو الأصل الرابع في هذه الرسالة المباركة، وهذا الأصل ملخصه أن الشريعة جاءت ببيان العلم النافع وصفات حَمَلَتِه، وبينت صفات أهله بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا شك، ولا شبهة فيه ولا ريب، فلا يلتبس الحق بالباطل، ولا يلتبس العلم بالجهل، ولا يلتبس الفقه بغيره لمن قرأ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: (الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء) .
(العلم) هو موضوع هذا الأصل، (والعلماء) هم: حملة هذا العلم، (والفقه) أي أن هذا الأصل مخصوص ببيان حقيقة الفقه ومن هم الفقهاء.
وليس مراد المؤلف رحمه الله بالفقه هنا معناه في الاصطلاح الخاص الذي هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بل المراد بالفقه هنا إدراك الشريعة وفهمها، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فليس المراد بذلك معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية فقط.
قال رحمه الله تعالى: (وبيان من تشبه بهم وليس منهم) .
قوله: (تشبه بهم) أي: بالعلماء والفقهاء، (وليس منهم) أي: وحاله في الحقيقة أنه ليس منهم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى بين صفات العلماء الربانيين، وبين من تشبه بهم في أخذه العلم، لكن لم يكن هذا العلم قد آتى ثماره، وحصّل به حامله مقصوده؛ لأن العلم يحمله من الناس صنفان: عامل به، فذاك الموفق المحصِّل للمقصود، ومهمل له، وذاك الخاسر المحروم؛ لأن من تعلم العلم ولم يعمل به فهو حجة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، حجة لمن أخذ به وقرأه وعمل به، وهو حجة على من قرأه وأعرض عنه، وكذلك حجة على من أعرض ابتداءً فلم يقرأ أو يعمل، فكلاهما يدخل في كون القرآن حجة عليه، لكن من أخذ بالقرآن وأعرض عنه فإنه أعظم جرماً ممن لم يأخذه من الأصل، والسبب أن من أخذ القرآن فقد أبصر، وصار عنده آلة الاهتداء ومعرفة سلوك الطريق المستقيم، بخلاف الذي أعرض عنه بالكلية؛ فإنه لم ينل البصيرة، ولم يحمل النور.
ولذلك كان الذم الشديد الذي ورد في القرآن هو لمن أخذ القرآن وأعرض عنه، فأسوأ مثلين ذكرهما الله عز وجل في كتابه هما فيمن أخذ العلم ولم يعمل به، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ، (آتيناه آياتنا) أي: البينات الواضحات، (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) كما يسلخ الجلد من الشاة.
أي: لم يبقَ معه شيء منها.
كما أنك إذا سلخت الشاة لا يبقى شيء من جلدها عليها، فكذلك الواقع في هذا الذي منّ الله عليه بالعلم ولم ينتفع به، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:175-176] ، وهذا فيه بيان أن الضلال والانحراف كان منه، مأخوذ من قوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) ، ومن قوله: (أَخْلَدَ) .
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: أعانه على هذا الشيطان، نعوذ بالله قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] أي أنه في عناءٍ دائم ولهثٍ غير منقطع عند قيام سببه، وعند عدم قيام سببه، وذلك أنه أعرض عن النور والهدى بعد البصر، وهو من أشد ما يكون على القلب أن يعرض الإنسان بعد البصيرة.
والمثل الثاني في سورة الجمعة؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5] فجعل إعراضهم عن مقتضى ما حملوه من العلم تكذيباً، ومقتضى ذلك أنهم كذَّبوا بما حُمِّلوا من العلم؛ لأنهم لو كانوا صادقين مصدِّقين لهذا العلم لعملوا به، فلا يمكن لإنسانٍ يصدق ويعتقد ما يحمله من العلم أن يتخلى ويعرض عنه.
وهذا في الإعراض الكلي، أما كون الإنسان يخالف ما علمه في بعض الأحيان بداعي الهوى أو الشهوة فهذا يقع، ولكنه لا يستمر على الإعراض، ولا يستمر على الانسلاخ، بل يعود ويستعتب ويستغفر ويرجع.
والمهم أن كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بينا العلم النافع، وبينا أهله بياناً واضحاً شافياً، وميَّزا ذلك عما يلتبس بهما من مدعي العلم الذين هم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى النار بأفعالهم، بل في بعض الأحيان بآرائهم وأقوالهم؛ حيث إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسوِّغون للناس الشرّ والضلال، وبينا من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى هذا الأصل في أول سورة البقرة في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:122] ، فإن الله عز وجل قص في هذه السورة نبأ اليهود، وما كان منهم من تكذيبٍ وإعراض، وما قابلوا به الدعوة، فذكّرهم جل وعلا بعظيم ما أنعم به عليهم من العلم والهدى والاصطفاء وغير ذلك، وبين ما كانوا عليه، وكيف قابلوا تلك النعم، فكانت حجةً عليهم لا حجةً لهم.