قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، يقول العلماء: ما ارتكب إنسان معصية إلا وخالف هواه سنة رسول الله؛ لأنه عند الإقدام على تلك المعصية عنده وازعان، وصوتان في أذنيه: أحدهما صوت السنة تقول: أقلع فهذا حرام.
والآخر صوت الهوى يدعوه: هذه لذة فمَن يجيب؟ إن غلب داعي الهوى مال معه، وإن غلب داعي السنة عُصِم ونجا.
ولذا يقول العلماء: اتباع السنة تدريب، ونحن إذا نظرنا إلى جزئيات بسيطة يقولها بعض العلماء، إنما هي من باب التعويد وترويض النفس.
فمثلاً: نأتي في الأكل والشرب واللبس والنوم والأمور الفطرية العادية: أنت تريد أن تأكل الطعام وأول طريق الطعام الفم، لو حملت الطعام باليمنى أو باليسرى إلى فمك ووصل إلى الفم ذهب في طريقه، ولكن إذا أخذت الطعام باليسرى جاءت السنة وقالت: لا، السنة أن تترك اليسرى، وتأخذ باليمنى.
وإذا أردت أن تشرب كذلك وإذا أردت أن تلبس قدمت الكم الأيمن فتلبس الثوب، ولكن إذا امتدت اليسرى قالت السنة: لا، البدء باليمنى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طعامه وشرابه ومنامه، وفي كل شيء.
إذا جئت إلى فراشك وأردت أن تضطجع استلقيت على ظهرك، أو نمت على بطنك أو على يسارك أو على يمينك، ولكن عندما تستلقي على يسارك تقول لك السنة: لا، انقلب على اليمين، وعندما تنبطح على بطنك تقول لك السنة: لا، النوم على البطن مكروه؛ لماذا هذا كله؟ لأنك إذا أصبحت وأمسيت تأخذ بالسنة في الصغيرة والكبيرة صرت سنياً بالاتباع، ولهذا عندما يُقدم الإنسان على عمل، أو يُدعى إلى تركٍ فلينظر وليأت بالميزان، داعي الهوى يدعوه إلى المخالفة، وداعي الاتباع يدعوه إلى الموافقة والاتباع، فيوازن بين الكفتين، وقد قدمنا أن هذا الحديث هو ميزان لرغبات الإنسان مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول بعض العلماء: إذا كانت كفة الهوى ثقيلة جداً ومائلة ومعها الشيطان والنفس، وداعي السنة في الضمير، بعيد وخافت، فكيف أفعل؟ يقول العلماء: توقف لحظة بسيطة جداً، وانظر إلى ما بعد رجحان كفة الهوى، أين ستؤدي بك؟ وماذا سيتم؟ لنفرض أنها من الرغبات النفسية أو الشهوة، فإن لذتها لحظة، ثم ماذا بعدها؟ فالمؤمن يرجع على نفسه باللوم والندامة، وسيأتي الحديث عن موقف الإنسان إذا أذنب واستغفر.
إذا كان مثلاً أخذ مالاً سرقة، أو اغتصاباً، أو جحد عارية، أو أي شيء من هذا الذي تدعو إليه النفس، فما آخر هذا؟ المال سيذهب، وستحل مكانه خطيئة.
وفي الجملة ضع الجنة في كفة اتباع السنة، وضع النار مع ميل الهوى، وبناء عليه فانظر إلى أين تميل؟ ما زلنا في هذا الميزان النفس تدعو إلى الشهوات وإلى المخالفة ومعها النار، والسنة تدعو إلى الاتباع والطاعة، فإذا كان الإنسان في إحدى الكفتين فسيسقُط في إحدى الجانبين، إن كنت في جانب الشهوة والهوى فستميل بك الكفة، وتسقط في النار عياذاً بالله، وإن كنت في كفة السنة والطاعة ومخالفة الهوى إيماناً برسول الله، فستسقط بك الكفة في الجنة.
الله أكبر والله إن الحق لواضح، لكن غلبة الهوى على الإنسان تجعله يميل إلى المخالفة.
وهنا وقفة بسيطة يا إخوان! لماذا يرغب الإنسان في تلبية رغبات نفسه؟ لعل بعض الناس يقول: هذه مصلحة ظاهرة أو منفعة عاجلة.
نقول: ألا تعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأمرك بشيءٍ أو ينهاك عن شيء، فهو أعلم بما فيه مصلحتك، فلو جئت مكتباً استشارياً واستشرته في مسألة ما، كأن تبني بيتاً في مكان ما، ولك رغبة في ذهنك، وقال لك المكتب الاستشاري: لا، هذا المحل لا يصلح لهذا الشيء، فإنك لن تقدم على إقامة العمارة في محل لا يصلح للبناء؛ لأنك استشرت من هو أعرف منك فاقتنعت بفكرته ومشورته، وإن كانت مخالفة لرغبتك.
وكذلك إذا جئت إلى طبيب وعندك شيء ما، ونصحك الطبيب ألا تتناول العمل الفلاني أو الطعام الفلاني، فإذا رجعت إلى نفسك، فأنت ترى الطعام وتشتهيه، وتسمع نداء الطبيب من ورائك: احذره لا يتناسب مع صحتك، فأيهما أولى بأن تسمعه؟ والعقل ماذا يقول لك؟ أتأكل وتشرب ولا تدري ماذا بعد ذلك؟ أو تسمع نصح الطبيب؟ لا شك أنك تسمع نصح الطبيب لأنه أعرف منك.
فإذا كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه، وطبيب الأبدان وطبيب الأرواح والسراج المنير الذي جاءنا بالصراط السوي من عند الله يقول: اسلك هذا الطريق وتجنب كذا وكذا، فهو أولى بأن تسمع كلامه صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه وتعالى يقول في الآية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] ، ثم يقول بعدها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:153] .