يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن) أي: لا يصدق أحد حقيقة ويطبق الإيمان عملياً حتى يكون إيمانه الذي يدعيه وينتسب إليه ويتلبس به، يحمله على أن يكون الهوى والميل والرغبة فيه تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ وما هي علاقة الإيمان بهذا؟ لأنك مبدئياً تؤمن بالله، فتشهد أن لا إله إلا الله، وتقول: الله ربي ورب العالمين، تعلنها سبع عشرة مرة في يومك وليلتك في الصلوات الخمس: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أي: خالقهم ورازقهم، محييهم ومميتهم، مدبر أمورهم بالربوبية، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لأنه المستحق للألوهية والعبادة منا له.
وتشهد أن محمداً رسول الله أي: تشهد أن الرب سبحانه وجل جلاله أرسله إليك وإلى الناس كافة برسالة وبلَّغها.
إذاً: إن كنت تؤمن حقاً بهذه المبادئ، وأنه فعلاً لا معبود بحق سواه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله، جاء بالرسالة من عنده؛ فلا يتم هذا الإيمان ولا يكون عملياً إلا إذا كان هواك تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا كلمة (هواه) يقولون في اللغة -واللغة العربية فلسفتها عجيبة- هوى وهواء، وثنى وثناء، وغنى وغناء، والثرى والثراء، كل هذه بينها فوارق.
الثرى والثراء، المقصور معناه: التراب، والممدود معناه: الغنى ووفرة المال.
الغنى والغناء، الغنى: ضد الفقر، والغناء: اللهو واللعب.
والهوى هو: الميل والرغبة، والهواء: هو هذا الذي نتنسمه والذي يملأ الفراغ بين السماء والأرض.
إذاً: (حتى يكون هواه) ، أي: ميله ورغباته، تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول العلماء: في هذا الحديث لفت نظر؛ لأن كلمة (الهوى) غالباً ما تستعمل في الأشياء التي هي ضد الحق يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يعني: ميوله ورغباته.
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فالحق يقابله الهوى، والهوى في مقابلة الحق يكون باطلاً.
فقالوا: كيف يكون هذا الهوى -الذي هو غالباً يستعمل في الجوانب التي هي ضد الحق أو في الشر- موضِع تحقيق الإيمان ويجعله تابعاً لرسول الله؟ ويُجاب عن ذلك والله تعالى أعلم: بأن البلاغة النبوية تضع الإنسان في رغباته كلها من بدايتها إلى أقصاها وهو الميل الفطري والرغبة الإنسانية في الغرائز وفي الميول وفيما تهواه النفس وتميل إليه من الجانب البشري، وكل ما ينزع بالإنسان إلى جانب آخر، ولكن تلك الرغبات التي تشذ بالإنسان أو تجنح به إلى اليسار لا يمكن أن يكون صاحبها مؤمناً إلا إذا كانت نزعات الأهواء والميولات النفسية خاضعة وتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: حب الآخرة، والميل إلى العمل الصالح هي الفطرة، (كل مولود يولد على الفطرة) أي: الفطرة الإسلامية الحنيفية السمحة، وهي من باب أولى تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا أصبح هواه وميوله الذي يشبع رغباته وشهواته، ويدعوه إلى تحقيق مطالبه البشرية ورغباته الحيوانية متبلوراً ومتمرناً وتابعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن جانب الخير فيه سيكون تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
ولذا يقولون: الإنسان فيه شبه بالسبُع في الافتراس وقوة الغضب، وفيه شبه بالملائكة في اللين والتواضع، والإنسان مكون من روح وجسد، فالروح -دائماً- تسمو إلى مكارم الأخلاق وعلو الهمة، وطاعة المولى، والاستئناس بالعبادة وبذكر الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
والجسم يخلد إلى الأرض في شهواته ورغباته، فالجسم يميل إلى طبيعته الحيوانية، والروح تميل إلى الجوانب الروحية العلوية الإلهية.
ولذا يقولون: إذا غلبت طبائع جسمه روحَه كان حيواناً: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] ، وإذا غلب الجانب الروحي كان ربانياً، ممن يعلمون ويتعلمون ويطيعون الله سبحانه، ولذا انقسمت الأمم الماضية إلى قسمين: قسم: غلَّبوا جانب البدن، وهم اليهود، وأصبحوا ماديين يحتالون على ما حرم الله ليأكلوه.
والقسم الآخر: النصارى الذين أرادوا أن يكبحوا جماح المادة في اليهود، فابتدعوا الرهبانية، فما استطاعوا أن يواصلوا بها.
وجاء الإسلام وطابق ووازن بين مركبات الإنسان مادة وروحاً، فأذن له أن يأكل ويشرب ويتحرى الحلال، وأن يصلي ويصوم، ويجمع بين الأمرين بكفتين متعادلتين ويطير بجناحين سليمين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] .
ولذا يقول علماء الاجتماع: الإسلام دين ودنيا، وعلى هذا يخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا، حتى تكون طبائعه وغرائزه وهواه وميوله كلها تابعة لما جاء به صلى الله عليه وسلم.