ما هو حد الإكراه الذي يرفع عن الإنسان حكم ما فعل عند العلماء؟ بعضهم يقول: حد الإكراه في البدن بالضرب، أو بالجرح، أو بالقتل.
وبعضهم يقول: حد الإكراه بالبدن أو بالمال، والإمام مالك رحمه الله يروون عنه أنه ما كان يرى الإكراه في المال، لأن المال يفادي به دينه، والجمهور على أن من أكره في ماله، أو أكره في نفسه أو ولده وأهله، فإن ذلك الإكراه يجعله في حل مما أكره عليه، وبعضهم يقول: الإكراه بالسجن والقيد يعتبر إكراهاً، والواقع أن الناس ليسوا سواء، فهناك من يضرب ويجلد ولا يؤثر فيه، وهناك من توجه إليه العبارة فتكون أثقل عليه، فالناس يتفاوتون في الإكراه.
ويذكر عن أحمد بن حنبل رحمه الله عندما كان يضرب في محنته وهو في السجن، ففي يوم من الأيام جاء سجين إلى أحمد وقال: يا أحمد! أتعرفني؟ قال: لا، فقال عن نفسه: إنه سارق مال فلان، وهو عندي، وقد دفنته في المكان الفلاني، وهأنذا أقر لك، وأنت تراني كل يوم أضرب فلم أقر أمامهم أبداً، أما أنت -يا أحمد - فانظر إلى ما وراء الأسوار من أقلام ومحابر تنتظر ماذا ستقول في قضية القرآن، يقول أحمد: والله! لقد شجعني، فهذا شخص يضرب كل يوم على مال، ويتحمل الضرب ولا يبالي به، فهل مثل هذا لو ضرب سوطاً وسوطين وعشرة، يقال: قد أكره على الطلاق؟ لا.
بعد هذا البحث في نوعية ما يقع فيه الإكراه، قالوا: يقع الإكراه على المال، وعلى الطلاق، وعلى شرب الخمر، وعلى السرقة، لكن لكن هل ممكن أن يكره على الزنا؟ وهل يمكن أن يكره على قتل شخص آخر؟ أما الشافعي رحمه الله وغيره فيقولون: الإكراه في كل شيء إلا القتل، ويمكن أن يكره على الزنا، وقال الآخرون: لا، كيف يكره على الزنا، والزنا لا يتأتى إلا باختيار من الرجل، وبإرادة منه، وبانتشار يتأتى به الفعل؟ ويجيب عن ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله بأنه يصح ابتداءً أن يكون مكرهاً، أما عندما يتعرض للفعل وتتهيأ الأسباب، فإن الجبلة الإنسانية لا تعرف بعد ذلك إكراهاً أو غير إكراه، فإذا تهيأت الأسباب، وجئ بالفتاة وخلي بينه وبينها، وأخذت تراوده على ذلك، فإنه حيوان يتفاعل وينفعل، فهو ابتداء أكره على ذلك، وحين يقع الفعل خرج عن طور إكراهه وإرادته.
إذاً: يتأتى الإكراه على الزنا، والعلماء مختلفون في إكراه الرجل على الزنا، فماذا يقولون في المرأة إذا أخذت بالقوة وكتفت، فهل يتأتى الإكراه لها أم لا؟ وهل يشترط في المرأة ما يشترط في الرجل؟ أجمع المسلمون أن المرأة إذا أكرهت على الزنا فلا حد عليها، ولا ذنب عليها، ويأتي النص القرآني الكريم ليبين ذلك: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] .
وهذا نص صحيح من كتاب الله صريح في موضوع إكراه المرأة، وما الذي يخرج الرجل؟ هل كونه لا يتأتى إلا باختيار؟ قد تكون الغريزة فيه بدون اختيار، وعلى هذا يطرد الباب فيما يتعلق بالزنا، وبالخمر، وبالسرقة إلى غير ذلك.
أما الإكراه على القتل، فلو أكره إنسان على أن يقتل آخر وإلا أخذ ماله، فقتله، فبإجماع المسلمين أنه لا يعذر، وإذا كان الإكراه بالضرب فقتل فبإجماع المسلمين أنه لا يعذر، وإذا كان الإكراه بتهديده بالقتل: اقتل وإلا قتلت، وكان المهدد قادراً على أن ينفذ ما هدد به فقتل فما حكمه حينئذٍ؟ هنا تأتي المعادلة، ما قتل المكره إلا مفاداة لنفسه، فكأنه فادى نفسه بغيره، إذاً: هو آثم ومؤاخذ، ولكن هل يقتل هو لأنه مباشر للقتل؟ المكره له اتخذه آلة للقتل، كمن جاء إلى صبي صغير وأعطاه السلاح وقال: اذهب فاقتل ذاك، فالجمهور يقولون: الصبي غير مكلف، ولكن الذي دفعه وأعطاه السلاح هو الذي يقتل، والصغير جزء من آلة القتل، لكن الصغير لا تكليف عليه ولا حساب، يقولون: ليست عليه مسئولية السؤال والحساب، فهو فاقد أهلية المسئولية كالمجنون، ولكن العاقل يتحمل المسئولية، وله أهلية السؤال والمسألة، فكيف يقدم قصداً على قتل إنسان ليسلم هو، إذاً فادى نفسه بغيره، فيقتل باتفاق، وهناك من يقول: المُكْرِهُ والمُكْرَه كلاهما يقتل لأنهما اشتركا في القتل، ويهمنا أن قضية الإكراه على القتل خارجة عن هذا الموضوع، لنص خاص، ولعصمة النفس، وللمقابلة في مفاداة نفس بنفس.
أيها الإخوة الكرام! إن هذا الحديث يبين فضل الله على هذه الأمة، ويبين تجاوز المولى ومسامحته لها، وما يوجد في الإسلام طريق مسدود قط.
وهذا الحديث وإن كانوا قد تكلموا في سنده من جهة الرجال، فإن كل جزئية فيه لها شواهدها، ولهذا حكم عليه النووي بأنه حسن، أي: حسن لغيره، وعليه العمل، وتلقته الأمة بالقبول.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته.