بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) حديث حسن، رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما] .
هذا الحديث يتكلمون على سنده، ويكثر العلماء من القول فيه، وأكثرهم على ضعف سنده، ولكن تحسين المؤلف له لا عن طريق السند، ولكن عن طريق الشواهد، وما يتقوى به من غيره، والقاعدة عند علماء الحديث: أن الحديث إذا كان ضعيف السند، -أي: أن في رجاله من يتكلم فيه- ولكن المعنى صحيح، ويتقوى بنصوص أخرى هي صحيحة؛ فإنهم يحسنونه، وهو المعروف بالحسن لغيره، وهذا الحديث مما صح معناه، وشهدت له نصوص أخرى سواء من القرآن الكريم أو من السنة النبوية، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي) التجاوز: التعدي، تقول: جاوزني فلان، أي: تعداني، وتقول: تجاوزت عن حقي الذي عند فلان أي: تعديته وأسقطته، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي) بمعنى: أسقط لي عن أمتي.
وقوله: (الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) ، هذه مسائل يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الله أكرم الأمة برسوله في ذلك، ومفهوم المخالفة: أن الله لم يتجاوز لنبي غيره لأمةٍ من الأمم عن تلك الثلاث، وهذا المنصوص عليه، لأن الأمم الماضية كانت تؤاخذ بما أخطأت، وبما نسيت، وبما أكرهت عليه، أما الخطأ والنسيان والإكراه، فكما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنها عندما نزلت قرأها صلى الله عليه وسلم، فكان كلما قرأ واحدة منها يقول الله تعالى: (قد فعلت، قد فعلت) .
إذاً: هذه الأمور الثلاث كانت الأمم من قبل مؤاخذة بها، وهي الإصر والأغلال التي كانت عليهم، ومما أكرم الله أيضاً هذه الأمة مع تلك الثلاث التوبة، فقد كانت توبة بني إسرائيل -كما بيّن سبحانه وتعالى- أن يقتلوا أنفسهم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54] ، كانت توبتهم في تلك الواقعة أن يقتل بعضهم بعضاً، وهذه الأمة جعل الله لها التوبة: الندم على ما فات، والعزم على عدم العودة، وكراهية الذنب كما يكره أن يقذف في النار.
فمن توافرت فيه تلك الشروط الثلاثة صحت توبته، ولو عاد بعد ذلك بدون إصرار فإن الله سبحانه وتعالى أيضاً يتوب عليه ما دام صادق النية، والتوبة تكون فيما بينه وبين الله، وقد أتى الرجل الذي اقترف ما اقترفه مع امرأة أجنبية إلا أنه لم يجامعها، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت حداً فطهرني، قال: وما ذاك؟ قال: وجدت امرأة في أقصى المدينة، ما تركت شيئاً يفعله الرجل مع المرأة إلا فعلته، غير أني لم أجامعها، فنزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟! قال: بل لك ولأمتي جميعاً) .
إذاً: كانت الأمم الماضية توبتها غير توبة هذه الأمة في الكيفية، وكانوا يؤاخذون بالخطأ والإكراه.
أما قضية الإكراه فجاء في الحديث: (مر رجلان مسلمان في طريقهم على قوم لهم صنم نصبوه على قارعة الطريق، لا يسمحون لأحد أن يمر من هذا الطريق إلا إذا قرب إلى صنمهم قرباناً، فقالوا لهذين الرجلين: قربا قرباناً واجتازا، فقالا: ما كنا لنقرب لغير الله شيئاً، فقالوا: قربا ولو ذباباً، فقال: أحد الرجلين: أما الذباب فأمر هين، فقرب ذبابة فخلو سبيله فدخل النار، وأما الثاني فقال ما كنت لأقرب لغير الله ولو ذبابة، فضربوا عنقه فدخل الجنة) فهذا امتنع في مقام الإكراه على تقريب ذبابة، فقتل فدخل الجنة، وجاء في حق مؤمني هذه الأمة: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] .
فهذا بيان من الله سبحانه بأن من تكلم بكلمة الكفر مكرهاً معفو عنه، وقد نزلت تلك الآية الكريمة وما بعدها في عمار بن ياسر، أخذه المشركون وأخذوا أبويه ياسراً وأم عمار سمية وعذبوهم، وقتلت سمية، وتكلم عمار بما يريدون فتركوه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلكت يا رسول الله! قال: وما ذاك؟ قال: الأمر كذا وكذا قال: كيف تجدك الآن؟ قال: قلبي مطمئن بالإيمان بالله وبرسوله، قال: أنت على ما أنت عليه الآن، وإن عادوا فعد) .
وهكذا الإسلام ما كان الشخص في موقف شدة إلا وجاءت الرخصة، ولا في موقف ضيق إلا وجاء الفرج.
وهنا يتكلم العلماء في حكم الخطأ والنسيان، وحكم الإكراه، فقوله: تجاوز لي، أي: تسامح الله عما يقع من المسلم عن طريق الخطأ أو طريق النسيان أو طريق الإكراه، وكيف يكون هذا؟ يقسم العلماء ما يقع فيه الخطأ والنسيان والإكراه إلى أمور قولية وفعلية، ثم يأتون من جانب آخر فيقولون: المخطئ والناسي هل هما في وقت الخطأ والنسيان مكلفان أو مرفوع عنهما التكليف؟ جاء في الحديث الآخر: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق) أي: أن العقل مات، وهو أداة الإدراك ومناط التكليف، وإذا عمل الرجل عملاً مخطئاً فيه أو ناسياً إياه أو مكرهاً عليه، ففي الحديث الذي هو القاعدة العامة يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ، وهذا يفعل الفعل ناسياً إياه، إذا كان قد أقسم ألا يدخل بيت فلان، فنسي ودخل فهل له قصد في الدخول؟! لا، وإذا أخطأ في دار فلان عن دار فلان، أو بثوب فلان عن ثوب فلان فهل قصد؟ لا.
يقول العلماء: الخطأ قسمان: خطأ ضد الصواب، وخطأ ضد الطاعة، فالخطأ الذي فيه الكلام هنا هو الخطأ ضد الصواب، فإذا أراد إنسان شيئاً وأخطأ ففعل غيره فمعفوا عنه، مثل القتل، فالقتل يكون عمداً وخطأ، والآخرون يقولون: عمد وشبه العمد، وخطأ وشبه الخطأ، فالقتل العمد: هو ما كان عن قصد، وقد سبق إصرار لشخص بعينه، وأما الخطأ فهو: أن يقوم الشخص ليفعل شيئاً مأذوناً له فيه، فإذا به يصيب غير المأذون فيه، ومثلوا له: لو أنه أخذ سهماً ورمى صيداً، وكان وراء الصيد شخص نائم، وهو لا يدري عنه، فنفذ السهم من الصيد وأصاب النائم، هل هذا يكون عامداً لقتله؟ ليس عامداً لقتله، وإنما قتله خطأ، لأنه كان قصد الصيد، وإصابة الإنسان المعصوم ليس في ذهنه، ولم يخطر له ولم يرد ذلك أبداً، فهذا خطأ ضد الصواب، ومن هنا جاء الحديث يشهد لذلك: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ -أي: الخطأ ضد الصواب- فله أجر) أي: أجر على اجتهاده وإن لم يصب الحق، وقد امتدح الله سبحانه نبيه سليمان وداود في قضية واحدة، وقال في حقهما: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] .
أما الخطأ الذي هو ضد الطاعة، فهذا معصية، تقول: فلان أخطأ، وفلان أطاع.
ولذا يقال في الأول: مخطئ، وهو الذي جانب الصواب، ويقال في مقابل الطاعة: خاطئ، فالخاطئ الذي يفعل المعصية عمداً، ويترك الطاعة قصداً، والمخطئ هو الذي يقع فيما لا يريد أن يقع فيه، فلهذا قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ) ولكن هل كل خطأ متجاوز عنه؟ يقولون: الفعل إما حق لله، أو حق للآدمي أو مشترك بينهما، فما كان حقاً لله فإنه يتجاوز الله عنه، وما كان فيه حقاً لآدمي فإنه لا يعفى من حق الآدمي نتيجة خطئه.
ولذا يقول الأصوليون: هناك ما يسمى بخطاب التكليف، وخطاب الوضع، فخطاب التكليف فيه الأمر بالفعل أو بالنهي، وخطاب الوضع فيه العلامات والشروط والضمان وغير ذلك، فإذا جاء إنسان يمشي وبدون قصد كسر إناء لشخص، فإن كسر الإناء بدون قصد منه فيه أمران: إتلاف مال المسلم، والتعدي على حق الغير، فإثم التعدي مرفوع عنه؛ لأنه لم يتعمد التعدي على حق الغير، ولكن تعويض هذا المال الذي أتلفه لا يسقط عنه، فعليه أن يدفع القيمة، ويرفع عنه الإثم والخطأ، لأن ضمان المتلف لا يسقط عن الصغير، بل لا يسقط عن الدابة والبهيمة، فإذا كان هناك طفل صغير دخل بيت إنسان مع أبيه، ثم أخذ يعبث وأتلف شيئاً لصاحب البيت، فإن والد الصغير ملزم بضمان ما أتلفه الصغير، وإن كان الصغير غير مكلف.