الرسول صلى الله عليه وسلم جاءته قضية وهي مشهورة عند العلماء في باب الجنايات، وهي أن جارية وجدت وقد رُضّ رأسها بين حجرين، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لها: (من فعل بك هذا؟ وهي لا تتكلم؛ لأنها في حالة لا تسمح لها بالنطق، فأخذوا يعرضون عليها: فلان! فلان! فلان! حتى نطقوا باسم شخص يهودي، فأومأت برأسها: أي نعم) ، فهذه قرينة على حصر الدعوى في فلان.
يقول مالك: التدمية لوثٌ، فإذا وجد إنسان يتشحط في دمه، وسئل: من فعل بك هذا؟ وقال: فلان، فـ مالك يعتبر هذا لوثاً، ويبني عليه القسامة، والآخرون يقولون: كيف نأخذ قول إنسان على خصمه؟ فنقول: هذا شخص في آخر لحظات من الدنيا، وأول قدومه على الآخرة، فالأصل أن يرجو فضل الله، ويتجنب الكذب والظلم، فمظنة الصدق منه موجودة.
ويهمنا في هذه القضية أن اليهودي وجد جارية عليها ذهب وحلي، فأخذها إلى خربة وأخذ الحلي ورضَّ رأسها بين حجرين.
ونقف وقفة ونقول: يا أصحاب الذهب والفضة والأموال! لا تقتلوا صبيانكم بأن تضعوا عليهم من الذهب ما يزيد عن الحاجة.
فالطفلة الصغيرة يكفيها شيء يسير جداً تفرح به؛ لأن الذهب أغرى ذاك اليهودي على قتلها، فأهلها شاركوا في قتلها، ومثل هذا تجد ولداً عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، يشتري له أبوه سيارة، ويذهب الولد بدون رخصة فرحاً بالسيارة يلعب بها، ثم يرتكب حادثاً، فمن الذي تسبب في هذا الحادث؟ الذي تسبب هو أبوه، ولو مات الولد في الحادث فأبوه هو الذي ساعد على قتله؛ لأنه أعطاه شيئاً ليس كفؤاً له.
وتلك الجارية عرض عليها أسماء أشخاص من أصحاب السوابق، ولم يعرضوا عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، بل عرضوا عليها من هم مظنة لهذا العمل.
إذاً: السوابق لها أثر، وصحيفة السوابق عند الشرطة لها أثر في التحقيق الجنائي، ولما قالت: فلان، هل بمجرد ادعائها أُخذ بذلك مع أنه يهودي؟ لا، وإنما جيء به فاعترف، فرضَّ رأسه بين حجرين، أي: عومل بمثل ما فعل بالجارية، ولو قتلها بسلاح لقتل به.
ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ اليهودي بادعاء الجارية، وإن كان يهودياً فله حق الدفاع عن النفس، فلما أقرَّ أخذ بإقراره، وكان من الممكن أن ينزل وحي على رسول الله بذلك، ولكن لو جاء وحي إلى رسول الله فسيكون الحكم بمقتضى علم رسول الله، والقاضي لا يحكم بعلمه أبداً.
فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وهو لا يحكم على العبد بعلمه حتى يقيم البينة عليه، مع أنه لا تخفى عليه خافية.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لو جاءه الوحي وأخبره فمن للقضاة بعد ذلك، وهم لا يأتيهم وحي؟ ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة: (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر! أقضي نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن أقطعت له شيئاً من حق أخيه فإنما أقتطع له قطعةً من النار) سبحان الله العظيم! أقضي لكم على نحو ما أسمع.
فإذا جاء رجل يدعي على شخص آخر، والقاضي يعلم القضية، فينبغي على القاضي أن يقول للمدعي: لا تحتكم إليَّ، وتحاكم عند غيري، وادعني للشهادة، أما أن أكون شاهداً وقاضياً فلا يمكن؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولو حكم بعلمه فسيقول المدعى عليه: القاضي والخصم عليَّ، لكن يذهب إلى القاضي، ويبحث عن شهود آخرين غير القاضي.
وفي هذا الباب جُعلت البينة على المدعي؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولابد من تقديم البينة وإقامة ما يبين الحق، وهل البينة مجرد الشهود أو كل ما يبين الحق؟ يجوز للقاضي أن يحكم بالقرائن إذا اطمأن للقرائن، يقول ابن القيم: قد تكون القرينة أقوى من عدة شهود.
وقد وجدنا في كتاب الله أن القرينة قد تبطل بقرينة أقوى منها، فقرينة الدم في قميص يوسف بطلت بقرينة سلامة القميص.
إذاً: المسألة مسألة إقامة أدلة على صدق الدعوى، وإعمال القرائن لها منزلة كبيرة في الشرع، حتى لا تضيع حقوق الناس.