ننتقل إلى الموطن الثاني، وهو في سورة الحديد، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] .
في هذه السورة أمر عجيب! ففيها عرض حالة المؤمنين والمنافقين في القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ.
} [الحديد:12] إلى آخره، ثم جاء محل الشاهد فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:16-18] ، يقول ابن عباس في هذه الآية الكريمة: (عاتبنا الله بعد بدء الوحي بثلاثة عشر عاماً، ويقول مجاهد: بعد أربع سنوات، لاختلاف إسلام بعضهم البعض.
قال الله: {أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد:16] آن يئون، الأوان هو: الزمن، أي: ألم يحضر الوقت.
{لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] أي: من هذه الأمة.
{أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] ، قالوا في التفسير: إن أصحاب رسول الله ملوا ملةً أو غفلوا غفلة فعاتبهم الله.
وقوله: {لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي: من الوحي.
وخشوع القلب يكون بما ذكر الله في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، هذه حقيقة المؤمن حقاً، يتأثر بكتاب الله عند سماعه وتدبره.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، فأولئك الذين يقولون: نزهد في الدنيا، وننقطع إلى العبادة، إلى أي مدى يصلون؟! {تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} .
ثم يذكِّرهم بقوله: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} ، أي: من اليهود والنصارى.
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} ، ومع طول الأمد جاء النسيان.
{فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} إذاً: النسيان وطول الأمل في الدنيا يقسِّي القلب، ويُنْسِي الإنسان ذكر الله، ولذا لما قيل لـ أحمد رحمه الله: ما الزهد؟ قال: عدم طول الأمل.
فمن لم يطل أمله في الدنيا فهو زاهدٌ فيها، فهي عنده سواء جاءت أو راحت.
{فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، فما دام النسيان جاء، جاءت قسوة القلب، وكان الفساد كما في الحديث: (إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله ... ) إلى آخر الحديث.
ثم يأتي التنبيه وإيقاظ الفكرة: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، ولماذا ذكر الأرض هنا مع قسوة القلب؟ أي: كما أنه سبحانه القادر المقتدر على إحياء الأرض وهي جماد بعد موتها، فهو قادر على أن يحيي القلوب بعد موتها، فيحييها بالتذكرة بعد الغفلة، وبالإيمان بعد الكفر، وبالذكر بعد النسيان، وكأن هنا تنبيه! لا تيئسوا من رحمة الله، إن مضى عليكم شيء، ووقع على القلوب قسوة، فجدِّدوا ذكر الله، وجدِّدوا العلاقة مع الله؛ فإن الله قادر على أن يعيد لتلك القلوب حياتها، وتحيا بذكر الله، وما نزل من الحق، كما تحيا الأرض بعد موتها وأنتم تشاهدون.
قال: {اعْلَمُوا} ، وكأننا جهلنا أو نسينا أو غفلنا فلم نتأمل؛ فيعلِّمنا، ويقول: انظروا وتأملوا واعلموا من واقع الحياة عندكم، فكذلك القلوب القاسية.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} ، ارجعوا إلى عقولكم، وانظروا إلى ما بين أيديكم، وقايسوا بعقولكم، فاعتبروا يا أولي الأبصار! وكل ذلك من آيات الله الكونية لنرجع إلى أنفسنا.
ما الذي يرجع القلوب إلى ما هي عليه؟ ما الذي يجدِّد الإيمان بالله؟ ما الذي يُذهب الغفلة؟ ما الذي يليِّن تلك القلوب القاسية؟ ترى الفقير وتعرض عنه، وتسمع أنين المريض أو المعتل أو المحتاج وتصك أذنك عنه، وترى ذا الحاجة والفاقة وتغمض عينيك عنه، ما هذه القسوة؟! متى تكون ليِّن القلب رحيماً؟
صلى الله عليه وسلم إذا أحسنت إلى الفقراء، قال الله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد:18] ، وكأنه سبحانه يقول: قسوة قلوبكم موت لها، والمولى قادر على إحيائها كإحياء الأرض الميتة، فالأرض الميتة ينزل فيها المطر فيحييها، وقلوبكم ينزل لها الوحي فيحييها، واستجيبوا لهذا الوحي عملياً بأن تزهدوا في الدنيا بألَّا تكون غاية لكم، وبألَّا تعضوا عليها بالنواجذ، وبأن تحرصوا على فك العاني والتخفف عن المسكين وإعطاء المحتاجين.
وكأن سائلاً يسأل فيقول: يا رب! ما الذي يعيد لقلوبنا حياتها؟ وما الذي يذهب عنها قسوتها؟ فيقول: انظروا إلى ذوي الحاجات بعين العطف والرأفة والشفقة، ومدوا إليهم أيديكم بالعطاء، وفي الحديث: أن رجلاً شكا قسوة قلبه لرسول الله فقال: (امسح رأس اليتيم) ، وهل المراد مجرد مسح رأسه؟ وهل هذا المسكين حالقٌ شعرَه أو لا؟ وليس المراد مجرد إمرار اليد على رأسه، بل الغرض من هذا: التلطف والرأفة والرفق به، ومؤانسته وإذهاب البؤس عنه، وأن تشعره بأنه منك وأنت له.
إذاً: المراد بمسح رأس اليتيم هو الإشفاق والرأفة به، وإشعاره بالحفاظ على حسه وشعوره، وتشعره بأنه فرد من أفراد المجتمع، إن فقد أبويه فأنت له أب، وهذا من باب العطف على الناس والرحمة بهم.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد:18] ، والنساء شقيقات الرجال.