ومن فضل الله سبحانه الترخيص للضرورة فيما هو حرام من المطعوم فقط فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] ، وقال: {فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] .
فتلك المطعومات بعمومها محرمة، وعند الضرورة تباح، ويتفق الجميع على ذلك بالنص القرآني: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ.
} [المائدة:3] ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] ، قالوا: الباغي: الذي كان في سفره باغياً.
والعادي: الذي يتعدى حاجته في الأكل، أي: يجوز أن يأكل قدر حاجته ولا يتزود منها.
والآخرون يقولون: إذا كان في فلاة وليس أمامه إلا هذه الميتة، ولا يعلم أنه سيجد ميْتةً ثانية أو لا، فإن له أن يتزود منها إلى أن يجد الطعام الحلال، وهذا تيسير واسع، ومن فضل الله سبحانه أنه لم يجعل على المسلم طريقاً مسدوداً أبداً.
فهذا المطعوم الحرام عند الاضطرار يحل وليحيي نفسه، من باب ارتكاب أخف الضررين، ولو تأملت جميع ما جاء النص فيه بالتحريم لوجدت الحكمة من وراء ذلك ترجع إلى المكلفين، فإن الله غني عن أن يشرِّع لنفسه أو لحكمة ترجع إليه، وتقدم لنا: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً) .
لو تأملتم جميع أنواع المحرمات لوجدتم الحكمة ترجع إلى المكلفين، حتى في الابتلاء؛ لكي يتأدبوا، وقضية الابتلاء ظهر فيها المخالف من الموافق، وقضية الصيد فترة تمرين وتدريب؛ لأنه ليس الصيد وحده المنهي عنه، بل زوجته معه، وتكون معه في فراشه وسفره، فلا تمتد يده إليها، لماذا؟ لأنه في فترة يقول فيها: (لبيك اللهم لبيك) ، والذي يقول هذا لا يلبي داعي الغريزة في ذلك الوقت، فإذا استطاع أن يرفض دواعي الغريزة وينصرف إلى تلبية الله وحده، واستطاع أن يكف يده عن الصيد المباح؛ فلَأَن يكف نفسه ويعفها وهي محرمة عن مال الغير، وحيوان الغير فمن باب أولى.
وكذلك إذا جئنا إلى الميتة والدم ولحم الخنزير حتى ما أهل لغير الله به، تجد الحكمة راجعة إلى المكلفين؛ لِمَا فيها من أضرار بالغة، وهذا باب واسع في بيان حكمة التشريع.
ولو جئنا إلى الربا: فيه الفساد الأخلاقي، والفساد الاقتصادي، بعض الدول الآن بدأت تقلل من نسبة الربويات أو الفوائد الربوية؛ لِمَا وقعوا فيه، وكارثة الدولار والأسهم في أوروبا التي ضج لها العالم كان سببها ارتفاع نسبة الربا.
يهمنا: أنك لن تجد شيئاً حرمه الله لغير حكمة، حتى في النكاح، فإن الأمهات والبنات والأخوات ما حرمها الله إلَّا لحكم متعددة، وليس لحكمة واحدة.
إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) ، وهناك في الحدود: (فلا تعتدوها) ، وهنا لماذا لم يقل: (فلا تقربوها) ؟ لأن التحريم كحجاب قائم بين العبد المكلف وبين ما حرم الله، فاجعل هذا الحجاب قائماً وحافظ عليه، واجعل لك وقاية من عذاب الله بعدم ارتكاب المحرم، والذي يرتكب المحرم فكأنه انتهك الحجاب الذي أقامه الله؛ لأنه يقتحم الحمى، (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) .