نأتي إلى القسم الثالث في الحديث، وهو: (وحرم أشياء) ، وإذا جئنا إلى النصوص القرآنية نجد أن التحريم الوارد في كتاب الله للأشياء إنما يتعلق بصفات المحرمات، وكما يقول الأصوليون: (الحكم لا يتوجه إلى العين؛ ولكن إلى صفة فيها) .
وكلمة: (وحرم أشياء) نقف عندها وقفة خفيفة، وهي: إن الحق في فرض الفرائض وتحديد الحدود وتحريم الأشياء إنما هو لله وحده، ولا يحق لمخلوق أياً كان أن يقتحم هذا الباب ويقول: هذا حلال وهذا حرام، بل عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم حينما حرم على نفسه مباحاً فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ، بل قال سبحانه محذراً: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] ، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
إذاً: حق التشريع بالفرض والتحديد والتحريم إنما هو لله سبحانه، وكذلك الإباحة والحلية كما قال الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ، فلا أحد يملك ذلك.
ويقول علماء اللغة والمنطق: أعم العمومات كلمة: (شيء) ؛ إذ لا يخرج منها موجود في هذا الوجود، فكل موجود يصدق عليه أنه شيء من الأشياء، و (شيء) هنا لفظ مجمل، ولو جئنا إلى نصوص القرآن نجد -بنوع من التأمل- أن النصوص تنقسم إلى قسمين: قسم يكون عقوبة وابتلاءً.
وقسم يكون إرشاداً وتوجيهاً لمصلحة المكلف في ذاته.
فمن القسم الأول -وهو التحريم- قول الله سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] أي: بسبب ظلمهم واعتدائهم.
وقد يكون امتحاناً كما كان لليهود في قضية طالوت مع الجنود: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
} [البقرة:246] ، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ، وهذه مقاييس مادية في تولية الرئاسة.
والله يرد عليهم بمقومات الرئاسة والقيادة الفعلية الصحيحة: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أولاً اختاره الله واصطفاه، واختيار الله لا يكون إلا للأصلح، وهنا {وَزَادَهُ} عليكم {بَسْطَةً فِي} مقومات القيادة و {الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ؛ فالعلم يعرف به كيف يدير الجيش، وكيف يدير المعارك، وكيف يسوس الأمة، وملك جاهل لا يستطيع أن يسوس أمة، بلقيس لما كانت عاقلة وجاءها خبر سليمان، فكرت واستشارت {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34] ، فكرت بعقلها، ولم تقل كما قال جندها: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33] ، الجندي يعرف السلاح والقوة؛ ولكن الملك يعرف السياسة وبُعد النظر والتدبير، ولهذا إذا دخل العسكري في السياسة أفسدها؛ لأن عمله في الميدان.
إذاً: من مقومات القيادة السليمة: العلم والجسم؛ فالعلم يخطط ويدبر، والجسم بقوته ينفذ.
وحينما فصل طالوت بالجنود ماذا قال لهم؟ قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} [البقرة:249] ، ما قال لهم: (معطيكم نهراً) ، بل {مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] .
وهنا يأتي
Q لماذا يبتليهم بهذا النهر؟ ليعلم حقيقة الطاعة؛ لأنه رغم أنفهم صار ملكاً عليهم، فهو بدون اختيارهم، ومن هنا تظهر نتيجة العلم، وهل يقابل عدواً بقوم لم يرتضوه ملكاً؟ وهل يثق فيهم؟ وهل الثقة متبادلة بينهم أم منفية؟ منفية من جهتهم؛ لأنهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] ، استبعدوا أن يكون ملكاً عليهم، فهو مفروض عليهم، فهل سيخلصون معه في قتال العدو؟ وليس الأمر كما يقول بعض المفسرين: إنهم كانوا في الصيف الحار، وإذا شربوا امتلأت بطونهم، وإذا قابلوا العدو لا يستطيعون القتال، وهذا كلامٌ لا يُقال؛ فهم ليسوا أمام العدو حتى لا تكون هناك فرصة لأن يشربوا، فما زالوا بعيدين، وما وصلوا إلى العدو إلا بعد حين.
والذي يهمنا: أن في هذا امتحاناً لهؤلاء القوم؛ ليعلم حقيقة الطاعة والامتثال.
فقال الله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] أي: أنهم بفعلهم قالوا: نحن لن نطيعه؛ وعليه فإنهم سوف يعتزلون القتال.
علي رضي الله تعالى عنه قبل محاربة الخوارج أرسل إليهم ابن عباس وناقشهم، ورجع منهم عشرة آلاف مقاتل، فقال لهم: (أما أنتم فاجتنبوا، لا تقاتلون معنا ولا مع عدونا) ، فهو لم يطمئن إليهم؛ لأنهم لتوهم رجعوا إليه، ودخلوا في صفه، فإذا جاءوا معه وقابلوا إخوانهم الذين كانوا معهم، فمن يضمن أن العاطفة تغلب عليهم، وينقلبون عليه؟ بل لا لنا، ولا علينا.
وهنا طالوت امتحنهم.
نأتي إلى هذه الأمة، ونجد أيضاً موضوع الامتحان في قول الله سبحانه: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] ابتلاء (ليبلونكم) ، وقال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] .
إذاً: هنا ابتلاء، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] .
فهم خافوا الله، والله يعلم منهم ذلك، فإن الله لا يخفى عليه شيء من قبل أن يوجد العالم؛ لكن ظهرت فضيلة هذه الأمة، وعلم الناس حقيقة مكانة الأمة المحمدية، لماذا؟ لأن هناك أمة قد ابتُليت بمثل هذا، وامتُحنت فرسبت، قال الله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فماذا فعلوا؟ ما صبروا، وألقوا الشِباك يوم الجمعة، وجاءت الحيتان يوم السبت، وأخذوا الشباك يوم الأحد مليئة بالحيتان.
فتلك أمة احتالت على ما حرم الله في الصيد، وهذه أمة حافظت على حدود الله ومحارمه؛ فلما خرجوا في عمرة الحديبية ما امتدت يد صحابي واحد إلى صيد من طير أو من غزال أو من حيوان في الأرض، ويأتي الصيد يتحداهم، كما وصفه الله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] ، يأتي الصيد فيقف على سن الرمح الذي هو أداة صيده، أَمِنَ ويتحدى ويقف على سن الرمح، وتناله اليد! فيقال له: اذهب لا تمتحني فيك.
أبعد من هذا: يمر صلى الله عليه وسلم بظبي يستظل في ظل شجرة، يريد أن يستريح، فيوقِف عنده رجلاً لئلا يهيجه أحد، ليس فقط نكف عن صيده، بل نحافظ عليه وعلى أمانه وراحته لئلا يأتي واحد فيروعه ويفر.
إذاً: هذا (ابتلاء) ليعلم حقيقة هذه الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] .