بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فما زلنا في شرح الحديث الثلاثين من الأربعين التي جمعها الإمام أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) ، حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.
أيها الإخوة! إن هذا الحديث النبوي الشريف -كما قال العلماء-: أجمع حديث اشتمل على جوانب التشريع الإسلامي، ولا يوجد حكم يخرج عن نطاقه؛ لأنه جمع الفرائض والحدود والمنهي عنه والمباح، وهذه هي أقسام التشريع.
(إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) ، أي: حافظوا عليها، والفرائض ما أُمر بفعله، وتقدم الكلام عليها، ثم قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، ثم قال: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) : وتقدمت الإشارة إلى نوع من الاشتراك في: (وحد حدوداً) و: (حرم أشياء) ، واختلف العلماء في المراد بالحدود، فقيل: هي العقوبات والزواجر، مثل: حد السرقة قطع، وحد الزنا رجم أو جلد، والقذف.
إلى آخره.
وقيل: المراد بـ (حد حدوداً) أي: ميَّز أحكاماً وبينها (فلا تعتدوها) .
وتقدم الكلام على ما جاء في كتاب الله من قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فيما يتعلق بالصيام والاعتكاف.
وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ، فيما يتعلق بأمر الطلاق والنساء.
وما يتعلق بالمواريث والأنصباء في سورة النساء.
وما جاء في سورة التوبة بحفظ حدود الله.
وما جاء في سورة المجادلة في الظهار بين الرجل وزوجه.
وما جاء في سورة الطلاق في أمر العدة.
ويرى بعض العلماء أننا لو حملنا حدود الله على تلك المسميات لكان تكراراً للمعاني، (نهى عن أشياء) ، (حرم أشياء) ، والواقع أنه بالتأمل يظهر أن هناك فرقاً بين حدود الله وبين ما حرم الله، والكل فيه التحريم والمنع.
فمثلاً قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، وقد ذكرنا قول أبي حيان رحمه الله: (تلك) اسم إشارة للجمع، و (حدود) مجموعة، و (تلك) إشارة لمؤنث، وقد يُشار بها إلى البعيد، فتشمل أحكام الصيام كلها.
ولو رجعنا إلى الآيات قبلها بقليل لوجدنا الوصية والقصاص.
فنقول: إن في مسمى الحدود هنا معالم محددة معدودة: فالاعتكاف أيام معينة.
والصيام كذلك أيام معدودات.
والوصية في شيء محدود.
والقصاص في نفس.
إلى آخره.
وهكذا آية البقرة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ.
} [البقرة:229] فهو أيضاً معدود، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا.
} [البقرة:229] إلى آخره.
وكذلك آية النساء في المواريث أنصباء محددة معدودة.
وفي الظهار كفارة معينة معدودة.
وفي سورة الطلاق بيان للعدة: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] .
فيكون شيء معين محدد؛ فلا تعتدوا تلك الحدود التي حدها الله.