ثم تأتي إلى عرفات، وقد هيئت تهيئةً كاملةً في العفة وفي الأمانة وفي التوكل، فتأتي إلى عرصة عرفات وأنت عبد رباني حقاً، وهناك يتجلى المولى سبحانه لأهل الموقف، كما جاء في الحديث: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا يباهي بأهل الموقف ملائكةَ السماء) ، أهل الموقف يخطئون ويصيبون، وملائكة السماء {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ، لكن يباهي الله بأهل الموقف الملائكةَ ويقول: انظروا (انظروا إلى عبادي! جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فيقولون: يا رب! يرجون رحمتك، ويخشون عذابك.
فيقول سبحانه: أُشهدكم -يا ملائكتي- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم، ولمن شفعتم فيه) .
بعد هذا تنزل إلى منى، وتبدأ برمي جمرة العقبة، والقضية ليست حصيات ترميها أو تتمرن على هدف؛ فقد كنت قبل الحج مثقلاً بذنوب، ومكبلاً بقيود أوثقك بها عدوك إبليس، وحمَّلك إياها، وأنت قد جئت إلى بيت الله، وها أنت تفيض من عرفات لا قيد عندك ولا وزر عليك، فهل تكون نشيطاً أم كسلاناً، قوياً أم ضعيفاً؟ لا شك أنك قوي، فتأتي إلى عدوك وتأتي إلى الجمرات وهي رمزٌ للشيطان، كان يبدؤك بالعداوة وبالنكال وبالحرب وينتصر عليك، وأنت الآن في موقف القوي المنتصر، فتعلن عليه الحرب: باسم الله، الله أكبر، رجماً للشيطان، وإرضاءً للرحمن.
والذي يبدأ بالحرب على عدوه، ويعلنها عليه، أينام له ويسكت؟ لا، بل يكون في يقظة دائمة.