أما الزكاة فمجالها واسع، وتضييعها يكون بما يلي: إما أن يتركها بالكلية.
وإما أن يتغاضى عن بعض ماله، فلا يخرج الزكاة عن بعضه.
وإما أن يدقق في الحساب، وإذا أراد أن يعطي النصاب المفروض فتَّش، هل يخرج هذه؟ لا، هل يخرج هذه؟ لا، هذه كذا، وينظر في الأصلح له، فهذا تضييع، بخلاف المؤمن الذي يتعامل بصدقته مع الله.
ولعلكم تذكرون قصة الصحابي مع عامل الزكاة الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً إلى جهة الحنكية والنخيل وهذه النواحي الشرقية، فمر على صاحب إبل عند الماء، فكانت الإبل خمساً وعشرين، فقال: عليك بنت مخاض؛ لأن زكاة الإبل كل خمس فيها شاة إلى عشرين، فخمس وعشرون فيها بنت مخاض، وست وثلاثون فيها بنت لبون، إلى آخره، وبنت المخاض التي ولدت العام الماضي وأمها حامل هذه السنة، فهي بنت سنة وبدأت في الثانية، فقال له: زكاة إبلي بنت مخاض؟! قال: نعم، قال: ليست ظهراً فيُركب، ولا ضرعاً فيُحلب، لكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها، فما فرض الله عليك إلا هذه الصغيرة، يعني: وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، والمفروض عليك في إبلك بنت المخاض الصغيرة هذه، (فاختصم العامل مع صاحب المال، فهو يقول: فريضتك بنت المخاض، فيقول الآخر: لا، خذ ناقة كوماء) .
هل رأيتم خصومة مثل هذه؟! هل سمعتم بمثلها؟! العامل يقول: ائت بالصغيرة هذه، وصاحبها يقول: لا، خذ هذه الكبيرة.
لماذا؟ لأنه يتعامل مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] .
فحينما اشتدت الخصومة قال العامل: لا تتعب نفسك، ولا تتعبني، إن كنت مصراً عليها فدونك رسول الله بالمدينة، اذهب بها إليه، أنا لا أقدر أن آخذها، لاحظوا أمانة العمال إلى أي حد وصلت؛ فجاء مع العامل بناقته، فقال العامل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الرجل جئت إلى إبله، وقص عليه القضية، فقال صلى الله عليه وسلم لصاحبها: (أطيبةً بها نفسك؟ قال: نعم والله يا رسول الله! كيف أدفع بنت مخاض في سبيل الله، وهي ليست ظهراً يُركب، ولا ضرعاً يُحلب؟! لكن أحب أن تأخذ مني هذه الناقة، فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) .
ثم عاش الرجل إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنهما، وكان يعطي العشرات من الإبل في زكاة إبله؛ ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (بارك الله لك في إبلك) ، فهذه الدعوة لا تذهب سدى.
وهكذا -أيها الإخوة- فحفظ الزكاة وعدم تضييعها يكون: بضبط نصابها، وبوفاء حقها.
ولذا قال الفقهاء: إخراج زكاة الحبوب والحيوان والثمار من أوسط النوع، لا من جيده فيكون إرهاقاً على المالك، ولا من رديئه فيكون تضييقاً على المسكين.
ولذا عمر رضي الله تعالى عنه لما مرت عليه أنعام الصدقة وجد شاة حافل ضرعُها فقال: والله ما أعطى هذه أهلُها بطيب نفس.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (وإياك وكرائم أموالهم! واتقِ دعوة المظلوم -لأنك إذا أخذت كرائم الأموال ظلمتهم فيدعون عليك- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) .
من أخطر أنواع تضييع الفرائض تضييع الزكاة، فقد يجتهد في حسابها، ويتخير نوعها، ويقدمها بأكمل ما تكون؛ ولكن يحبطها ويبطلها، كمن يصنع بركة عسل ويضع فيها قطرات من الصَبِر والثوم، والله تعالى يقول: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] .
إذاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] .
تضييع الزكاة أخطر من تضييع الصوم والصلاة؛ لأنه قد تكون بشيء ما من الرياء أو الإيذاء، ويجب أن يحفظ شعور المسكين الذي يدفع له، ولا يتمنن عليه بما يعطيه؛ فهو حق واجب، {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] .
كلف الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحمل مسئولية جمع الزكاة وليس له شيء منها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، فهو يقوم بجمعها وتوزيعها وليس له منها شيء.
ومنذ أن عُطِّلت الزكاة وقُطعت الصلة بين الغني والفقير ووُجدت الفجوة، جاءت المبادئ التي تهدم وتنتزع البركة، وجاءت مبادئ يُنادَى بأن يحل محلها غيرها! والله لا يؤدي واجب الزكاة إلا الزكاة؛ لأنها كما قال تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] ، تطهر الغني من دنس الشح، وتزكي الفقير من درن الحقد، فالزكاة عامل ربط وتعاطف ومؤاخاة، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.