وفي المزح قد يبحث الشخص عن كلمة سواء كانت حقاً أم باطلاً ليضحك القوم، أما لو كانت طرفة أدبية، أو نكتة لطيفة، أو كان فيها توجيه، فلا مانع منها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه ولا يقول إلا حقاً.
والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أيضاً يمزحون، ومما يروى أن أعرابياً جاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ راحلته عند باب المسجد، وجاء بعض الصحابة وقالوا: يا نعيمان!! نحن منذ فترة من الزمن ما أكلنا اللحم، قال: فماذا تريدون أن أفعل؟ قالوا: انحر لرجل ضيف عند رسول الله، وسيعطيه الرسول بدلاً عنها من إبل الصدقة، وتكاثروا عليه حتى نحرها، وتقاسموا لحمها، وخرج الرجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد ناقته، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فسأل النبي أصحابه عنها، فأخبروه بأن نعيمان ذبحها وفرق لحمها، فدعاه وقال له: ما الذي حملك على هذا؟ قال: الذين دلوك علي هم الذين حرضوني، فضحك صلى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابي ثمن ناقته من عنده.
لا نقول إن هذا من باب إجازة التسلط على أموال الناس، لا، فالصحابة لم يفعلوا ذلك إلا بمقصد حسن، وبحسن ظن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما إذا كان عن تعد، كما فعل غلمان عندما أخذوا ناقة لرجل من الأعراب، فذبحوها وأكلوها، فلما خرج، قال: من فعل هذا؟ قالوا غلمان حاطب، فلما سئلوا عن علة ذلك، قالوا: كنا جائعين، فغُرم سيدهم قيمة الناقة مثلين، وألزم بالنفقة التي تكفي لغلمانه فلا يجوعون فيعتدوا على أموال الناس.
ففرق بين هذا الذي جاء عن تقصير، وذاك الذي عن حسن قصد أو عن رغبة فيما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظاهر من زوجاته شهراً، وكان عمر في العالية وجاء زميله الذي كان يقاسمه الأيام، فقد عمر بن الخطاب وجاره لهما بستان في العالية، ولا يستطيعان أن ينزلا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع الأحاديث، ولا يستطيعان أن يجلسا معاً ويتركا المسجد، فتناوبا، فيجلس هذا في البستان وينزل هذا يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين يأتي في الليل يسمِّعه ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغداً ينزل الآخر، وهكذا يتناوبان.
فيوم جلس عمر ونزل صاحبه، فلما عاد إليه قال: يا ويح عمر! قال: ماذا حصل، هل داهم الأعراب المدينة؟ قال: لا، ولكن طلق رسول الله زوجاته.
فنزل عمر وبدأ بـ حفصة بنته، فقال لها: ما بالك طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لم يطلقني، فقال لها: فأين هو؟ قالت: هو في العلية.
قال: فماذا حصل؟ قالت: نساؤه طلبنه النفقة.
فطعنها عمر في خاصرتها، وقال لها: أغرك أن جارتك أوضأ منك وجهاً، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: والله لأصعدن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأضحكنه.
فلما صعد قال: السلام عليك يا رسول الله! فرد عليه السلام.
فسأله: هل طلقت أزواجك يا رسول الله؟! قال: لا.
ولكنهن يطلبنني النفقة.
قال: والله يا رسول الله! لو رأيت بنت فلان -يعني: زوجة عمر - وهي تقول وتقول إلى أن ذكر أشياء ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما جئت هنا إلا من طلباتهن كذا وكذا.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه تعمد أن يأتي بالأخبار التي تضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه غضبان من زوجاته.
وقد جاء عن عمر أنه لقي رجلاً فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! أريد أن أطلق زوجتي.
قال: ولم، قال: لا أحبها، فزجره وقال: ثكلتك أمك، وهل كل البيوت تبنى على المحبة، أين الوفاء وأين المروءة وأين مكارم الأخلاق، وأين وأين حتى رجع الرجل.
ومرة أخرى يأتي إنسان إلى بيت عمر، ثم يرجع من بابه، فيعرف خبره عمر، فيسأله عن سبب عودته من بابه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت أشتكي زوجتي إليك، وكثرة نزاعها معي، فلما وصلت إلى باب بيتك فإذا بي أسمع زوجك ترفع صوتها عليك، فقلت: إذا كان هذا أمير المؤمنين يصبر على زوجه، فلماذا لا أصبر أنا كذلك.
فقال له عمر: وكيف لا أصبر عليها وهي أم ولدي، وفراشي، وحافظة مالي، وطاهية طعامي، ومنظفة ثيابي.
فهذا هو عمر رضي الله عنه الذي جاء يقول إن زوجتي تقول وتقول، حتى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الكلمة التي يقولها الإنسان لا يريد إلا أن يضحك القوم دونما غاية وراء ذلك، هذا هو العبث، أما إذا كان لإصلاح ذات البين أو لتفريج هم إنسان، كأن تجد إنساناً يخنقه الغضب، وتحتبس العبرة في عينه، ومع كلمات هادئة أو كلمات لطيفة، تسرِّي عنه كل الذي يعانيه، فتكون هذه أعظم صدقة منك عليه؛ فهذا لا بأس به.
وأعظم ما يكون من ذلك: عندما يتكلم الإنسان في العلماء، ولا يلقي لذلك بالاً، بل قد يكون عن قصد وتدبير.
وكم جاءت الأحاديث أن شر الناس رجل خبب زوجة على زوجها، أو عبداً على سيده، وما ذلك إلا باللسان أو بالكلام.
ويذكرون أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل على أبي بكر فإذا به ممسك طرف لسانه -جاذباً له- وهو يقول: تب إلى الله أوردتني المهالك! قال: مه يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لولاه استرحت.
فإذا كان الصديق رضي الله تعالى عنه يحاسب لسانه عملياً كما يقولون، فكيف يكون بالآخرين؟ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال:- على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، جعل صلى الله عليه وسلم فيه أعمال اللسان زرعاً، والزرع لا بد له من حصاد، فمن يزرع الشوك لا يحصد إلا الشوك، وعلى هذا يكون التشبيه من حيث العمل ومن حيث النتيجة، وكما ذكر صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج مما رآه عند قوم يحرثون ويبذرون فيطلع ويحصدون في يومهم ثم يعود النبات مرة أخرى، وكلما حصدوا طلع النبات، وذكر أن هذا هو الجهاد في سبيل الله، وأنه ثمرة أو حصاد زرعهم.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكم زلات اللسان، وما الغمز ولا اللمز ولا الهمز ولا الاستهزاء ولا السخرية ولا الكذب ولا الغيبة ولا النميمة ولا الفتنة إلا من حصائد اللسان.
وبعض العلماء يقول: واعجبا! اللسان محبوس وراء أربعة جدران، ومع هذا ينفذ منها، أنت تطبق عليه الفكان بأسنانهما، والشفتان بطرفيهما، ومع ذلك يفلت منهما ويأتي بالكلمات التي لا تليق.
ويقولون: كل سهام يمكن تداركها إلا سهم اللسان، فإذا نفذت الكلمة من الشفتين لم تستطع أن تستردها.
نسأل الله تعالى أن يقينا وإياكم شر ألسنتنا، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
وخير ما نختم به هذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، يا لسان! قل خيراً فتغنم أو اصمت فتسلم لأنك بين أحد أمرين إن كنت متكلماً فلا تتلكم إلا لتغنم، وإلا فاصمت لتسلم والله تعالى أعلم.