ثم بعد ذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله.
الحديث) ، ملاك الأمر: هو جماع الأمر، وما يملك أطرافه وصلبه وحواشيه، كأنه يقول: ما تمتلك به كل ما تقدم.
فأخرج صلى الله عليه وسلم لسانه وقال: (أمسك عليك هذا) ، ولم يقل: أمسك عليك لسانك، بل أخرج لسانه صلى الله عليه وسلم وأشار إليه بإصبعه، ليجعله في صورة حية أمام معاذ، مع أن معاذاً يعرف اللسان ويفهم الكلام، لكن ليبرز الموضوع عملياً، فقال معاذ: (أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟) ، أي: بالصغير والكبير!! قال: (ثكلتك أمك) ، الثكل هو: إذهاب الأولاد حتى لم يبق إلا واحد.
ثم قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم -شك من الراوي- إلا حصائد ألسنتهم) ، وهذا تشبيه ثان، الإنسان في الحياة يزرع والحياة مزرعة، والحصاد يكون يوم القيامة، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سوق) ، وقوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) ، فتارة تكون الدنيا سوق وأنت السلعة، وتارة تكون مزرعة وأنت الزارع، ما تزرع هنا تحصده هناك.
(حصائد ألسنتهم) ، لم يقل: حصاد، بل: حصائد، كأن اللسان يزرع أنواعاً، ومن زرع الشوك يجني شوكاً، ومن زرع الورد يجني ورداً وفلاً.
ومن زرع الخير يجده، ومن زرع غير ذلك يجد ما زرع؛ لا ظلم اليوم.
إذاً: الكلمة هي من أخطر ما يكون، ولا يمكن أن يوفي إنسان حصاد اللسان في لحظات، ولكن لنعلم أن أخطر حصاد اللسان الصدق والكذب، (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) ، والكذاب مآله إلى النار.
يقول الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: إبليس استحيا من أن يكون كذاباً حينما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، ثم قال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] .
لو لم يستثن هذه لكان كذاباً لأن هناك أشخاصاً لا يغويهم، فاحترس لذلك لئلا يكون كذاباً.
وأبو سفيان وهو أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، عندما مُثل بين يدي هرقل، وقال له هرقل: إني سائلك عن هذا الرجل، ويقول لمن معه: كونوا من ورائه، فإن صدق صدقوه، وإن كذب كذبوه.
ثم سأله، فلما خرج من عنده قال: ما منعني أن أكذب وأحقر من أمر محمد عنده إلا أنني خشيت أن يؤثر عني الكذب!! إلى هذا الحد.
إذاً هذا الموضوع مهم جداً، ويكفينا دلالة على ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في التحذير من آفات اللسان -ومصداقاً لذلك فقد قال الشافعي: كل حديث له دليل من كتاب الله- قوله سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يجنبنا وإياكم الكذب والغيبة والنميمة، وكل ما لا يرضى سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.