لو جئنا إلى أول الكتاب العزيز لوجدنا أن الإيمان بالبعث هو منطلق كل التكاليف: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:2-3] وتبعاً لهذا {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] يعني: يؤدون الزكاة تبعاً لهذا الإيمان، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] ، على ما أخبرتهم وعلموا أخبارهم كما فعل المشركون عندما جاءوا إلى اليهود وقالوا: أنتم أهل دين وكتاب أخبرونا بكذا وكذا، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، يؤمنون بالغيب، يقيمون الصلاة، مما رزقناهم ينفقون، يؤمنون بما أنزل إليك، يؤمنون بما أنزل من قبلك، أما في الآخِرة فقال: يوقنون، لأن الإيمان بالله وملائكته والأمم الماضية والرسل المتقدمة؛ كل ذلك فيه شواهد، ولكن اليوم الآخر يحتاج إلى إيمان ويقين جازم {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4-5] .
يقول العلماء: هناك علم اليقين وهناك عين اليقين وهناك حق اليقين.
فالإيمان باليوم الآخر يجب أن يكون إيماناً حقيقياً، وهو حق اليقين، وعلم اليقين: العلم الذي لا يعتريك فيه شكٌ ولا تستطيع أن تدفعه، فتعلم يقيناً بأن الكل أكثر من الجزء، والجسم أكبر من الإصبع، وتعلم أنت وكل مسلم في العالم بأن قبلته هي الكعبة، ولا يشك مسلم في ذلك، ولو أراد أن يكذب نفسه ما استطاع، فإذا ما قدر له أن جاء إلى مكة وإلى المسجد الحرام، وأطل من باب المسجد ورأى الكعبة في وسطه، هل علمه بوجود الكعبة وهو في بلده يساوي علمه بوجود الكعبة وهو يعاينها أم زاد علمه؟ زاد علمه.
فإذا ما قرب من الكعبة وطاف بها ثم فتح له الباب ودخل إليها وأخذ يتردد في أرجائها، هل يكون علمه حين عاينها كعلمه حينما دخل في وسطها؟ لا.
فالأول: علم اليقين، والثاني: عين يقين، والثالث: حق اليقين، وهكذا الإيمان بالآخِرة يجب أن يكون واصلاً إلى اليقين الذي هو حق اليقين.
ولذا أنت تصلي وتحافظ على الصلوات، وتصوم وتتحمل الظمأ في شدة الحر، وتتحمل الرحلة إلى الحج، وتخرج من مالك الزكاة والصدقة موقناً بأن هناك يوماً يأتي تأخذ فيه جزاءك، وشهواتك ورغباتك تكف عنها، لماذا؟ لأنك توقن بأن هناك يوماً تأخذ فيه جزاءك أو تلقى عقابك، وهكذا جميع التكاليف أفعالاً وتروكاً منطلقها الإيمان باليوم الآخِر.